لم يكن أحد يتخيل أن مشهدًا بسيطًا لرجل في الستين من عمره، يجلس بجهاز ألعاب محمول أمام بحيرة، يمكن أن يتحوّل إلى ظاهرة على الإنترنت. لكن هذا ما فعله المدرّس الأميركي المتقاعد المعروف باسم @thescenicgamerofficial، الذي استطاع أن يعيد تعريف معنى اللعب، ويثبت أن الشغف لا يرتبط بالعمر، بل بطريقة النظر إلى العالم. الرجل الذي كان يقضي سنوات عمره في تعليم الأطفال القراءة والكتابة، أصبح اليوم يلهم الملايين حول العالم، وهو يعلّمهم درسًا جديدًا، هذه المرة من نوع مختلف تمامًا: أن الألعاب ليست نقيض الحياة، بل امتداد جميل لها.
بدأت القصة بهدوء. بعد أن أنهى سنوات عمله الطويلة في التعليم، وجد نفسه فجأة أمام وقت فراغ كبير. معظم أصدقائه تقاعدوا هم أيضًا، بعضهم اختار السفر، وآخرون انغمسوا في الهوايات المنزلية. أما هو، فقد عاد إلى حب طفولته القديم: ألعاب الفيديو. لكنه لم يرد أن يعيشها بالطريقة المعتادة — لم يكن يريد أن يقضي وقته محبوسًا بين أربعة جدران أمام شاشة مضيئة. كان يريد أن يعيد إلى التجربة شيئًا من الواقع، من النسيم، من ضوء الشمس. وهكذا وُلدت فكرته الغريبة: أن يأخذ جهازه معه إلى الطبيعة، وأن يحوّل كل جلسة لعب إلى مغامرة حقيقية.
في البداية، كان الأمر مجرد تجربة شخصية. في أحد الأيام، أخذ جهاز Nintendo Switch وخرج إلى الغابة القريبة من منزله في ولاية واشنطن. كانت أوراق الأشجار تتحرك مع الريح، وأصوات الطيور تختلط بالموسيقى الخلفية للعبة The Legend of Zelda: Breath of the Wild التي كان يلعبها. لحظةً ما، رفع رأسه من الشاشة، ونظر إلى الأفق، فشعر بشيء مختلف. لم تكن اللعبة فقط هي ما يمنحه المغامرة، بل المشهد الحقيقي أمامه. الطبيعة بدت وكأنها امتداد للعالم الافتراضي. ومن تلك اللحظة
، بدأ يسجّل مقاطع قصيرة يوثّق فيها تجربته، وينشرها على الإنترنت. لم يكن يتوقع أن يشاهدها أحد سوى أصدقائه، لكن النتيجة كانت مفاجئة تمامًا.
في غضون أسابيع، انتشرت مقاطع الفيديو بسرعة. الناس أحبوا الفكرة، أحبوا الهدوء في صوته، البساطة في طريقته، والتناقض الساحر بين التكنولوجيا والطبيعة. صار متابعوه يلقبونه بـ “المدرّس الرحّال” أو “الرجل الذي يلعب في الهواء الطلق”. ومع الوقت، لم يعد يصور فقط أمام الغابات، بل بدأ يسافر إلى أماكن مختلفة. من القمم الجبلية المغطاة بالثلوج إلى شواطئ البحيرات الزرقاء، من الصحارى الهادئة إلى السهول الخضراء. في كل مكان يذهب إليه، يختار اللعبة التي تناسب المشهد: Gran Turismo أمام طريق جبلي متعرج، Animal Crossing أمام كوخ خشبي قرب الغابة، The Legend of Zelda في سهلٍ مفتوح يلامس الأفق.
يقول في أحد مقاطع الفيديو التي لاقت انتشارًا واسعًا:
“أريد أن أُظهر للناس أن الألعاب يمكن أن تكون جزءًا من مغامرة الحياة، لا شيئًا منفصلًا عنها.”
هذه الجملة أصبحت لاحقًا شعارًا له، تتكرر في تعليقات المتابعين، وتُكتب على القمصان التي يصممها معجَبوه. فالرسالة التي ينقلها تتجاوز مجرد اللعب، إنها عن كيفية إيجاد التوازن بين العالم الرقمي والعالم الواقعي، بين المغامرة الافتراضية والتجربة الإنسانية الحقيقية.
واحدة من أكثر المقاطع تأثيرًا كانت عندما جلس أمام بحيرة في كولورادو ليلعب Journey على جهاز Steam Deck. في المشهد، تزامنت ألوان غروب الشمس في السماء مع ألوان الرمال في اللعبة، وكأن العالمين اندمجا في لوحة واحدة. المشهد انتشر على مواقع التواصل بشكل هائل، وكتب أحد المعلقين: “إنه لا يلعب اللعبة فقط، بل يعيشها”. ومنذ ذلك اليوم، صار المحتوى الذي يقدمه يلامس شيئًا أعمق من مجرد ترفيه، إنه يذكّرنا بأن الجمال يمكن أن يوجد حتى في أبسط اللحظات، عندما نختار أن ننظر إلى العالم بعين مختلفة.
مع مرور الوقت، تطورت فكرته إلى مشروع متكامل. بدأ يخطط لرحلات موسمية خصيصًا لتجربة ألعاب جديدة في أماكن مناسبة. عندما صدرت لعبة Pikmin 4 من Nintendo، حمل جهازه إلى حديقة نباتية ضخمة في أوريغون، حيث النباتات الحقيقية تحيط به من كل جانب، وصوّر تجربة كاملة جعلت المشاهدين يشعرون وكأن اللعبة خرجت إلى الحياة. وعندما أُطلقت Forza Horizon 5، قاد سيارته إلى طريق ساحلي طويل، جلس في المقعد الخلفي ووضع شاشة أمامه، ليعيش تجربة القيادة الافتراضية والمشهد الواقعي في آن واحد.
هذا التمازج بين الواقع والخيال، بين التقنية والطبيعة، جعله يصبح رمزًا لمفهوم جديد في ثقافة الألعاب. فهو لا يقدّم فقط محتوى مسليًا، بل يثير أسئلة عميقة حول علاقة الإنسان بالتكنولوجيا. هل يمكن أن نعيش الألعاب لا لنفصل أنفسنا عن العالم، بل لنقترب منه أكثر؟ هل يمكن أن تكون الشاشة نافذة على الجمال، لا جدارًا بيننا وبينه؟
المدرّس المتقاعد لم يقدّم إجابات جاهزة، لكنه قدّم نموذجًا. بفضل هدوئه وابتسامته البسيطة، أصبح مصدر إلهام لملايين المتابعين على Instagram وTikTok وYouTube. يتفاعل معه اللاعبون من مختلف الأعمار، بل وحتى مطورو الألعاب أنفسهم، إذ شاركت بعض الشركات مقاطعه على حساباتها الرسمية. في إحدى المناسبات، تلقّى دعوة من Nintendo of America لزيارة مقرها وتجربة ألعاب جديدة في أجواء طبيعية، كنوع من التقدير لفكرته التي جمعت بين الفن والتأمل.
ورغم الشهرة التي نالها، لا يزال يحتفظ بتواضعه المعتاد. في مقابلة قصيرة عبر الإنترنت، قال: “لست مؤثرًا أو خبيرًا في التقنية، أنا فقط شخص يحب اللعب، ويحب العالم الحقيقي من حوله”. ربما هذا ما يجعل قصته قريبة من القلب، لأنها تذكّرنا بأن الشغف لا يحتاج إلى معدات معقدة أو إعدادات ضخمة، بل إلى روح ترى في الأشياء البسيطة ما هو استثنائي.
كثيرون بدأوا يحاكون تجربته اليوم، من لاعبين شباب يخرجون بأجهزتهم إلى الحدائق لتصوير مقاطع قصيرة، إلى مدونين في أوروبا وآسيا يتحدثون عن “المدرس الذي أعاد تعريف اللعب”. ومن المثير أن بعض مؤسسات التعليم بدأت تستعين بفكرته في أنشطة المدارس، لتشجيع الطلاب على الجمع بين النشاط الذهني والبدني، وتحويل تجربة التعلم نفسها إلى مغامرة.
إن قصة @thescenicgamerofficial لا تتعلق فقط برجل متقاعد يحمل جهاز ألعاب إلى الخارج، بل تتعلق بفلسفة كاملة عن كيفية النظر إلى التكنولوجيا كوسيلة اتصال مع الطبيعة، لا كبديل عنها. في زمنٍ يكثر فيه الجدل حول تأثير الشاشات على الإنسان، يأتي هذا الرجل ليقدّم توازنًا مختلفًا: لا إفراط ولا انسحاب، بل وعي وجمال وانسجام.
ربما لهذا السبب، أصبح اسمه اليوم مرادفًا لفكرة “اللعب الهادئ”، تلك التي لا تبحث عن الأدرينالين السريع ولا المنافسة، بل عن لحظة تأمل صافية. لحظة تكون فيها الطبيعة شريكًا في اللعبة، لا مجرد خلفية على الشاشة. وهكذا، من خلال هذه المقاطع التي تجمع بين الواقع والخيال، استطاع أن يحوّل اللعب إلى شكل جديد من الفن — فن يربط الإنسان بما حوله، لا يبعده عنه.
وبينما يواصل رحلاته في أنحاء الولايات المتحدة، يخطط لزيارة أوروبا في ربيع 2026 لتصوير سلسلة جديدة من المقاطع في جبال الألب وسواحل البحر الأدرياتيكي. جمهور كبير ينتظر، لكنه لا يتعجل. وكما يقول دائمًا لمتابعيه في نهاية كل فيديو: “العبوا، ولكن لا تنسوا أن تنظروا حولكم”.
بهذه البساطة، يلخص درسه الأخير: أن اللعبة قد تكون طريقًا لاكتشاف الحياة نفسها.