خمسة وعشرون عامًا مرّت منذ أن أطلقت Nintendo واحدة من أكثر الألعاب غرابة وعمقًا في تاريخها، The Legend of Zelda: Majora’s Mask، اللعبة التي لم تكتفِ بأن تكون مجرد جزء آخر في سلسلة أسطورية، بل قررت أن تلتف حول المفهوم ذاته للأبطال والمغامرة والزمن، لتعيد صياغته بطريقة لم يجرؤ عليها أحد قبلها. صدرت اللعبة في أكتوبر 2000 على جهاز Nintendo 64، بعد نجاح Ocarina of Time الساحق بعامين فقط، لكنها لم تكن تكملة تقليدية. بل كانت رحلة غريبة في ظلال العالم، إلى مكان يبدو مألوفًا ومشوّهًا في آنٍ واحد.
تبدأ الحكاية عندما يجد Link نفسه في مدينة صغيرة تُدعى Clock Town، حيث يواجه واقعًا عبثيًا: قمر ضخم يحدّق به من السماء، يقترب يومًا بعد يوم ليُبيد كل شيء خلال ثلاثة أيام فقط. لكن الزمن هنا ليس خطيًا كما اعتدنا في ألعاب Zelda الأخرى، بل هو حلقة مستمرة، تكرار يائس يختبر صبر اللاعب ويمنحه حرية غريبة في مواجهة القدر. إعادة ضبط الأيام الثلاثة مرارًا وتكرارًا ليست ميكانيكا لعب فحسب، بل انعكاس رمزي عن فكرة الخوف من الفناء، والرغبة في التمسك بما هو مؤقت.
عندما أُطلقت اللعبة في الأسواق، كانت الانطباعات متباينة. البعض رأى فيها عملًا سوداويًا لا يشبه روح Nintendo المعتادة، والبعض الآخر اعتبرها تحفة فنية تفوقت على نفسها. ومع مرور الوقت، تحوّلت تلك الحيرة إلى تقدير عميق. فبينما قدّمت Ocarina of Time مغامرة كلاسيكية عن الخير في مواجهة الشر، جاءت Majora’s Mask لتسأل: وماذا لو لم يكن هناك شر مطلق؟ ماذا لو كان الخوف والحزن والضياع وجوهًا مختلفة للحياة نفسها؟ هذه اللعبة لا تروي قصة بطولية بقدر ما تطرح سؤالًا وجوديًا حول الزمن والهوية والمعنى.
“في كل مرة تُعيد فيها الأيام الثلاثة، لا تنقذ العالم فحسب، بل تحاول إنقاذ نفسك من النسيان.”
ما يميز Majora’s Mask ليس فقط قصتها الغريبة، بل تصميمها الذكي الذي يستغل فكرة الوقت كأداة لعب وسرد في آنٍ واحد. كل شخصية في Clock Town تملك جدولًا زمنيًا دقيقًا، تتحرك وتعمل وتغفو في أوقات ثابتة. ومع كل دورة زمنية جديدة، يكتشف اللاعب أسرارًا صغيرة، تفاصيل تُعيد بناء الصورة الكاملة للعالم. هذا التكرار لا يخلق الملل، بل ينسج علاقة غريبة بينك وبين الشخصيات — شعور بالحنين إلى زمن تعرف أنه سيتلاشى خلال ساعات. إنها تجربة فريدة، تُلزمك بمراقبة العالم بعينَي مسافر يعرف أن كل شيء مؤقت، وأن الجمال لا يدوم إلا لأنه زائل.
في تلك الفترة، لم تكن Nintendo تمرّ بمرحلة سهلة. جهاز Nintendo 64 كان يواجه منافسة شرسة من PlayStation، وكان على الفريق بقيادة Eiji Aonuma وبدعم من Shigeru Miyamoto أن يقدّم شيئًا جديدًا دون موارد ضخمة. استغل المطورون محرك Ocarina of Time ذاته لتسريع عملية التطوير، لكنهم لم يكتفوا بإعادة تدوير ما سبق، بل حولوا القيود التقنية إلى فرص إبداعية. لم يكن هناك سوى عام واحد لإنهاء المشروع، فابتكر الفريق فكرة الزمن المحدود والدورات الثلاثة كوسيلة لتقليص حجم اللعبة دون التضحية بالعمق. النتيجة كانت عملًا أكثر تركيزًا، وأكثر سوداوية، وأكثر فلسفية من أي شيء حمل اسم Zelda قبله.
عالم Termina — على عكس Hyrule — ليس مكانًا بطوليًا بقدر ما هو انعكاس مظلم للنفس البشرية. الشخصيات هنا لا تنتظر البطل لينقذها فحسب، بل تعيش هواجسها الخاصة: فتاة فقدت حبيبها، أمّ تنتظر ابنها المفقود، رجل يرتدي قناعًا يخفي حزنه. كل قصة جانبية هي مرآة لوجه من وجوه القناع نفسه — ذلك القناع الذي يرمز للخوف، للندم، وللهروب من الحقيقة. حتى نظام الأقنعة في اللعبة لم يكن مجرد إضافة شكلية، بل وسيلة لاختبار مفهوم الهوية. كل قناع يمنحك قدرة جديدة، لكنه في الوقت نفسه يُخفي ملامحك الحقيقية. إنها استعارة دقيقة عن الطريقة التي يتعامل بها الإنسان مع واقعه — يغيّر وجهه لينجو، لكنه في النهاية ينسى من يكون.
حين نتحدث اليوم عن إرث Majora’s Mask، لا يمكننا تجاهل تأثيرها العميق على ألعاب الجيل اللاحق. فكرة الوقت المحدود والجدول الزمني الديناميكي ألهمت مطورين كُثر، من Dead Rising إلى Outer Wilds. لكن الأهم من ذلك هو كيف استطاعت اللعبة أن تترك أثرًا نفسيًا لدى اللاعبين. كثيرون يعترفون بأنهم لم يفهموها حين صدرت أول مرة، لكنهم عادوا إليها بعد سنوات ليجدوا فيها انعكاسًا لأنفسهم. فكل من لعبها في طفولته يتذكر الخوف من القمر، أما من أعادها وهو ناضج فيدرك أن ذلك القمر لم يكن سوى رمزية للموت، للوقت الذي يقترب بصمت.
ربما لهذا السبب تحديدًا، لا تزال اللعبة حاضرة في ذاكرة الجماهير رغم مرور خمسة وعشرين عامًا. فهي لم تكن مغامرة ترفيهية، بل تجربة وجدانية كاملة. موسيقاها الغامضة، ألوانها الكئيبة، وتصميمها المليء بالرموز، كلها صنعت عالمًا يبتلعك بهدوء. ومع كل عودة إلى تلك الأيام الثلاثة، نشعر بشيء يشبه الحنين… وكأن اللعبة تذكّرنا بأن الزمن ليس عدوًا، بل معلمًا قاسيًا. إن Majora’s Mask لم تتحدث عن إنقاذ العالم، بل عن قبول خسارته. عن فكرة أن التكرار ليس هروبًا من النهاية، بل وسيلة لفهمها.
اليوم، بعد ربع قرن، ومع الشائعات المتزايدة عن إمكانية إعادة إصدار اللعبة على Nintendo Switch Online أو إعادة تصورها بمحرك جديد، يعود الحديث من جديد حول قيمتها الفنية. هل كانت سابقة لعصرها؟ دون شك. هل كانت مفهومة حين صدرت؟ ربما لا. لكنها كانت صادقة في كل ما قدمته. وهذا ما يجعلها خالدة. فحتى بعد مرور عقود، تظل Majora’s Mask واحدة من القلائل التي تجرأت على أن تسأل: “ماذا لو لم يكن البطل قادرًا على إنقاذ كل شيء؟” — سؤال لا يزال يطارد اللاعبين حتى اليوم، وربما لهذا السبب، لن تختفي هذه اللعبة من ذاكرتنا أبدًا.