من الطبيعي أن نجد الحنين هو المحرك الأبرز لعودة الألعاب الكلاسيكية في السنوات الأخيرة، خصوصًا حين يتعلق الأمر بعنوان ضخم مثل Final Fantasy 7. لكن خلف هذا البريق الحنينّي الذي يُغري اللاعبين بالعودة إلى Midgar والمناطق المحيطة بها، توجد قصة مثيرة وربما صادمة قليلًا: عملية إعادة بناء واحدة من أكثر الألعاب تأثيرًا عبر التاريخ لم تكن مجرد رحلة تطويرية معتادة، بل كانت أشبه بمحاولة تجميع تاريخ ضائع من الذاكرة. هذه ليست مبالغة لأجل الإثارة، بل تصريح رسمي خرج من Naoki Hamaguchi، مخرج Final Fantasy 7 Rebirth، الذي قال صراحة إن “لا شيء تقريبًا” نجا من عملية تطوير الإصدار الأصلي عام 1997. العبارة قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكن لو فكرت فيها جيدًا… فالموضوع أكبر بكثير من مجرد ملفات مفقودة. نحن نتحدث عن لعبة وضعت معيارًا جديدًا لصناعة الألعاب، لكنها كانت تعمل وقتها في ظروف ما قبل الانفجار الرقمي، حيث كانت الملفات تُحفظ بطريقة يمكن وصفها بـ”الفوضوية” مقارنة بالمعايير الحالية. والنتيجة؟ ضياع معظم الوثائق، الرسومات الأولية، التصاميم الداخلية، والأصول الفنية التي كانت الأساس في بناء تلك التجربة الخالدة.
هنا تكمن المفارقة الكبرى: لعبة ألهمت عشرات الاستوديوهات وأثرت في أجيال من اللاعبين، لم يكن قد تم حفظ مرجعياتها بالشكل الذي يليق بقيمتها. اليوم، عندما تعمل Square Enix على إعادة إحياء Final Fantasy 7 ضمن ثلاثية جديدة، لا يتم الرجوع إلى تلك الأصول بسهولة. بل الأمر أشبه بالبحث عن قطع أثرية، بعضها ضاع، وبعضها بقي فقط في ذاكرة صانعي اللعبة الأصليين. وهذا ما جعل وجود أسماء تاريخية مثل Yoshinori Kitase وTetsuya Nomura داخل الفريق أمرًا بالغ الأهمية. تخيل لو لم يكونوا موجودين؟ ربما كانت النتيجة مختلفة تمامًا وأقرب إلى نسخة بعيدة روحًا عن الأصل. Hamaguchi اعترف بهذا وقال شيئًا مثيرًا للاهتمام جدًا: “حتى لو لم توجد وثائق، يمكننا الحصول على المعلومات مباشرة من المصدر”. تخيل مشهدًا داخل الاستوديو: أحد المطورين يسأل عن شعور مشهد أو معنى تفصيل صغير في اللعبة الأصلية، فيلتفت Kitase ويشرحها كما يتذكرها من لحظات العمل الأولى قبل 3 عقود تقريبًا. نوع من النقل الشفهي للمعرفة، أشبه بما يحدث عند إعادة بناء قصور تاريخية اعتمادًا على ذاكرة البنّائين الذين لا يزالون على قيد الحياة.
وبينما قد يظن البعض أن فقدان المواد الأصلية يعطي المطورين فرصة “للحرية الإبداعية”، Hamaguchi رفض هذا المفهوم تمامًا، وصرّح بأنه لا يريد تطوير شيء يشبه “fan fiction”، تعبير مستخدم بين اللاعبين للدلالة على الأعمال المقلدة أو التي تنطلق من شغف غير مضبوط بالرغبة في إضافة لمسات شخصية بدلًا من الحفاظ على روح الأصل. وهذا موقف مهم جدًا، لأن كثيرًا من الريميكات في صناعة الألعاب تقع في هذا الفخ: إما تكون نسخة طبق الأصل بلا روح، أو تنحرف لدرجة تجعلها تبدو وكأنها لعبة أخرى تمامًا تستغل اسمها القديم. هنا Square Enix قررت اتباع طريق ثالث: الحفاظ على جوهر Final Fantasy 7 الكلاسيكية، ولكن بروح جديدة وبنية حديثة، كأنك تعيد سرد قصة سمعتها في طفولتك لكنك أخيرًا تراها بشكل كامل دون ضباب الذكريات. فكر قليلًا في تجربة اللعب نفسها: الشخصيات ليست مجرد نماذج ثلاثية الأبعاد محسنة، بل تمت إعادة كتابة حواراتها وتوسيع سردها. العالم لم يعد مشاهد ثابتة في الخلفية، بل ساحات واسعة تندمج فيها الطبيعة مع الخيال. ومع ذلك، رغم كل هذا التوسع، تشعر دائمًا أنك تلعب شيئًا مألوفًا. هذه توازنات حساسة جدًا في عالم التطوير، تتطلب يدًا تعرف تمامًا ما الذي يجعل الأصل عظيمًا قبل أن تبدأ في تطوير المستقبل حوله. وهو ما يجعل قصة ضياع الملفات أكثر إثارة: ربما لو كانت تلك المواد موجودة بالكامل، لكانت النتيجة مختلفة نوعًا ما — وهذا احتمال مثير للتفكير، أليس كذلك؟
المثير أيضًا أن هذا الوضع يعكس مرحلة كاملة في تاريخ الألعاب، وليس فقط Final Fantasy 7. كثير من استوديوهات التسعينات لم تكن تدرك أن منتجاتها ستصبح جزءًا من ذاكرة ثقافية عالمية، ولم تكن أدوات الحفظ الرقمية على مستوى التطور الذي نراه اليوم. نحن نتحدث عن زمن كانت فيه محركات الألعاب تُبنى داخل الاستوديوهات بشكل يدوي تقريبًا، وكان حفظ الملفات يعتمد على أقراص مادية أو خوادم داخلية محدودة قد تُفقد أو تتعرض لتلف. يمكنك تخيل الوضع كأن فريق التطوير كان في سباق لإنهاء مشروع ضخم، ولم يكن لديهم وقت للتوقف والتوثيق، لأن الصناعة حينها كانت في سباق مستمر مع التقنية ومع توقعات اللاعبين. بل حتى اللاعبين أنفسهم لم يتوقعوا أن اللعبة ستظل أيقونة بعد ثلاثة عقود، وستصبح موضوع نقاش بين مطورين ومؤرخين للألعاب. اليوم، ونحن نعيش في عصر يُحفظ فيه كل شيء تقريبًا، سواء عبر السحابة أو نسخ احتياطية متعددة، يبدو الأمر غريبًا. لكنه درس مهم في تاريخ التكنولوجيا: الأشياء التي نعتبرها بدهيات اليوم كانت رفاهية في الماضي.
ربما الجزء الأكثر إنسانية في هذه القصة هو رؤية كيف تعتمد Square Enix على الأشخاص، لا فقط على الملفات أو الأنظمة. هذه التفاصيل تجعل مشروع Final Fantasy 7 Rebirth أقرب لفكرة “إحياء ذكريات بشرية” أكثر من كونه مجرد مشروع تقني. حين يجلس Kitase أو Nomura خلف الطاولة ليشرحوا كيف كانت شخصية Cloud تشعر في لحظة معينة، أو لماذا تم تصميم Sephiroth بتلك الطريقة، فهم لا يستعرضون ملفات محفوظة، بل يستحضرون لحظات عاشوها أثناء صنع شيء أصبح فيما بعد اسطورة. هذا يعيدنا إلى فكرة عميقة: الألعاب العظيمة ليست مجرد كود ورسومات؛ إنها جزء من عاطفة وتجربة بشرية صادقة. وربما هذا ما جعل Final Fantasy 7 تصمد ثلاثين سنة وكأنها صدرت أمس. واليوم، ونحن نرى Rebirth تصل لجمهور جديد، يتبين لنا أن فقدان الملفات لم يكن نهاية العالم. بالعكس، قد يكون ما دفع الفريق ليضع قلبه وروحه في إعادة الصنع بدلًا من اتباع مخطط جاهز. وكأن التاريخ قرر أن يختبر وفاء المطورين للمصدر. وهذا ما يجعل تصريح Hamaguchi ليس مجرد خبر، بل نافذة صغيرة على الطريقة التي تُبنى بها الألعاب حين تكون أكبر من مجرد مشروع تجاري. هنا نرى امتدادًا لتراث، وإصرارًا على صيانته، حتى لو كانت المعركة ضد النسيان وضياع الأرشيف.
“لا توجد أي وثائق تقريبًا، كان تطوير الألعاب آنذاك أشبه بالغرب المتوحش”. ربما ستكون هذه الجملة يومًا ما جزءًا من كتاب تاريخ ألعاب الفيديو، لأنها تلخص حقبة كاملة. ومع تطور التكنولوجيا، ومع بدء شركات الألعاب في بناء أرشيفات رقمية ضخمة، يبدو أن درس الماضي سيبقى مهمًا: الأفكار العظيمة يجب أن تُحفظ، ليس فقط لأنها ملك لصانعيها، بل لأنها جزء من ذاكرة اللاعبين حول العالم. وفي النهاية، سواء كنت من عشاق Final Fantasy أو مجرد متابع لصناعة الألعاب، ستشعر بأن هذه القصة ليست فقط عن ملفات مفقودة، بل عن جهد إنساني للحفاظ على شيء نحبه جميعًا. وربما، حين نلعب الجزء الثالث من الثلاثية، سنتذكر أن الكثير مما نراه على الشاشة وُلد من ذاكرة بشرية قبل أن يصبح ملفًا رقميًا. تلك اللحظة ستكون مثل أن تجلس مرة أخرى مع صديق قديم، وتكتشف أنه رغم مرور السنوات، روحه لم تتغير. وهنا يبدو أن Square Enix نجحت في التوازن بين الماضي والمستقبل: احترام الأصل مع شجاعة إعادة تخيله. وهذا، بصراحة، هو جوهر الفن.