منذ إطلاق خدمة الجيل الخامس 5G في المغرب، تعيش المملكة مرحلة انتقالية جديدة نحو مستقبل رقمي أسرع وأكثر اتصالًا. فالمغرب أصبح ضمن الدول الرائدة إفريقيًا وعربيًا في مجال شبكات الاتصال المتقدمة، بفضل استثمارات ضخمة ورؤية استراتيجية واضحة تهدف إلى تعزيز البنية التحتية الرقمية. لكن بعد الحماس الأولي لإطلاق الخدمة، بدأ العديد من المستخدمين يلاحظون أن رصيد الإنترنت ينفد لديهم بوتيرة أسرع من المعتاد، خاصة عند الانتقال من شبكة 4G إلى 5G. هذه الملاحظة أثارت تساؤلات كثيرة: هل الجيل الخامس يستهلك فعلاً بيانات أكثر؟ أم أن المشكلة تكمن في إعدادات الهواتف أو طريقة الاستخدام؟
الواقع أن شبكة 5G لا “تستهلك” البيانات أكثر من غيرها بالمعنى الحرفي، بل توفر سرعة هائلة في تحميل ونقل البيانات تجعل المستخدمين يستهلكون حجمًا أكبر منها في وقت أقل. فحين تصبح السرعة أسرع بعشر مرات من 4G، يصبح من الطبيعي أن يشاهد المستخدم الفيديوهات بجودة أعلى، ويقوم بتنزيل الملفات الكبيرة في ثوانٍ، أو يستخدم تطبيقات بث مباشر تعتمد على نقل كميات ضخمة من البيانات. ببساطة، كل ما كان يستغرق دقائق أصبح يتم في لحظات، ومع هذا التغيير في السرعة يتغير أيضًا نمط الاستخدام دون أن نشعر.
لنأخذ مثالًا بسيطًا: عندما يشاهد أحد المستخدمين مقطع فيديو بجودة 1080p على شبكة 4G، قد يستهلك 200 ميغابايت في عشر دقائق. أما على شبكة 5G، فغالبًا سيختار التطبيق تلقائيًا جودة 4K نظرًا لسرعة الاتصال، ما يعني استهلاكًا يقارب 800 ميغابايت للفترة نفسها. نفس المدة الزمنية، لكن حجم البيانات أكبر بأربع مرات. هنا تكمن المفارقة التي جعلت البعض يظن أن الشبكة الجديدة “تأكل” الرصيد بسرعة.
ولا ننسى أن الهواتف الذكية الحديثة تضيف طبقة أخرى من التعقيد. فمعظم الأجهزة التي تدعم 5G تقوم بمزامنة البيانات تلقائيًا بسرعة أعلى، سواء تعلق الأمر بالصور على Google Photos أو مقاطع الفيديو في iCloud أو تحديثات التطبيقات التي تُحمّل في الخلفية. كل هذه العمليات تحدث دون تدخل المستخدم، وتستفيد من سرعة 5G القصوى لتنجز مهامها في ثوانٍ، ما يؤدي إلى استهلاك غير ملحوظ للرصيد.
كما أن بعض التطبيقات أصبحت أكثر “طموحًا” مع توفر الجيل الخامس. خدمات مثل YouTube وNetflix وTwitch تختار تلقائيًا أعلى جودة ممكنة للبث عند توفر اتصال قوي، بينما تعتمد الألعاب السحابية مثل Xbox Cloud Gaming وGeForce NOW على سرعات 5G لتحقيق تجربة خالية من التأخير. هذا التطور في أداء التطبيقات يجعل استهلاك البيانات أكبر بطبيعته، حتى لو لم يتغير سلوك المستخدم نفسه.
رغم كل هذه التحديات، يمكن للمستخدمين التحكم في استهلاكهم بسهولة باتباع بعض الخطوات البسيطة. تفعيل خاصية “توفير البيانات” (Data Saver) على الهاتف يعد أول وأهم إجراء، فهو يحد من تحديثات الخلفية ويمنع التطبيقات من استخدام الإنترنت بشكل مفرط دون إذن. كما يُنصح بتحميل التحديثات والملفات الكبيرة فقط عند الاتصال بشبكة Wi-Fi المنزلية أو في مكان عمل مزود باتصال ثابت. ولمن لا يحتاج إلى السرعة القصوى طوال اليوم، يمكن ببساطة التبديل إلى شبكة 4G أثناء المهام العادية والاكتفاء بالـ5G عند الحاجة إلى سرعة عالية، مثل أثناء الاجتماعات المرئية أو بث الألعاب.
الجانب الإيجابي الأهم هو أن شبكة الجيل الخامس في المغرب ليست مجرد تقنية أسرع، بل هي جزء من رؤية استراتيجية أوسع ضمن مشروع “المغرب الرقمي 2030”. هذه المبادرة الوطنية تهدف إلى تعزيز مكانة المملكة كمركز رقمي في القارة الإفريقية، من خلال تطوير البنية التحتية وتشجيع الابتكار في قطاعات مثل الصناعة الذكية، التعليم عن بُعد، الصحة الإلكترونية، وإنترنت الأشياء.
شركات الاتصالات الثلاث الكبرى — “اتصالات المغرب”، “أورونج المغرب”، و“Inwi” — أطلقت خدمات 5G بالتوازي، مع توفير أجهزة منزلية متطورة مثل El Manzil 5G و5G i-Box، مما يسمح للعائلات بالاستفادة من سرعات فائقة واستقرار أفضل للاتصال. ووفقًا للتقديرات الرسمية، فإن تغطية الشبكة تجاوزت مائة مدينة، مستهدفة أكثر من 18 مليون مستخدم في المرحلة الأولى.
اقتصاديًا، من المتوقع أن تولد شبكة الجيل الخامس فرصًا بقيمة تتراوح بين 4 و6 مليارات دولار بحلول عام 2030، بفضل انتشار الخدمات الرقمية وتطور الحلول الذكية. هذه الأرقام لا تمثل مجرد توقعات، بل هي انعكاس لتحول حقيقي في الاقتصاد الرقمي الوطني. فالقطاعات المهنية، خاصة المقاولات الصغيرة والمتوسطة، ستستفيد من سرعة الاتصال في تحسين الإنتاجية، والتقليل من التكاليف التشغيلية، وزيادة القدرة على المنافسة في الأسواق الدولية.
كما أن تطبيقات الجيل الخامس ستمتد إلى مجالات الحياة اليومية. في قطاع الصحة، مثلًا، ستتيح التقنية إجراء فحوصات عن بُعد بدقة عالية وتبادل بيانات المرضى في الوقت الحقيقي. في التعليم، ستدعم 5G بيئة تعليمية تفاعلية قائمة على الواقع الافتراضي والمعزز. أما في النقل، فستفتح الباب أمام البنية التحتية الذكية للمركبات المتصلة. حتى الفعاليات الرياضية الكبرى، مثل كأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2030، ستستفيد من هذه الشبكة لتقديم تجربة جماهيرية غامرة تعتمد على البث الفوري والتحليلات المباشرة.
كما قال أحد خبراء الاتصالات:
“السرعة العالية ليست ترفًا تقنيًا، بل هي شرط أساسي لبناء اقتصاد رقمي مستدام ومجتمع متصل بالمستقبل.”
وبالنظر إلى هذه التحولات، يمكن القول إن 5G ليست فقط شبكة أسرع، بل رافعة تنموية تفتح الباب أمام جيل جديد من الخدمات والفرص. إنها تمثل خطوة استراتيجية تمهد لمرحلة جديدة من التنافسية والفعالية على مستوى الاقتصاد المغربي.
في النهاية، نفاد الرصيد بسرعة عند استخدام شبكة 5G ليس خطأ في التقنية نفسها، بل نتيجة طبيعية لتطورها. فكلما ازدادت السرعة، زاد استهلاكنا دون وعي. ومع ذلك، يمكن التوفيق بين الاستفادة من السرعة الفائقة وترشيد الاستهلاك باتباع بعض العادات الذكية. بهذه الطريقة، سيستمتع المستخدم المغربي بتجربة اتصال قوية وسلسة دون قلق بشأن نفاد الرصيد.
الجيل الخامس إذًا ليس مجرد ترقية في الشبكة، بل هو وعد بمستقبل رقمي أكثر كفاءة واتصالًا، يحمل معه فرصًا اقتصادية وتقنية هائلة، ويجعل المغرب على طريق الريادة في عالم الاتصالات الذكية.