في إحدى القصص الطريفة التي خرجت من كواليس تطوير ألعاب Nintendo، كشف المخرج Kenta Motokura عن تصرف غير متوقع من Shigeru Miyamoto أثناء اختباره للعبة Donkey Kong Bananza. وبينما عادةً ما يتابع المصممون التقدم في اللعبة لمعرفة سير التجربة بشكل شامل، اختار Miyamoto أن يركّز على نقطة واحدة فقط داخل اللعبة، وظلّ يكرر أفعاله في نفس المكان، يحفر ويكسر ويستكشف التفاصيل الصغيرة من حوله، دون أي نية للتقدّم في المراحل. تصرف غريب في الظاهر، لكنه كما اتضح لاحقاً كان يحمل معنى أعمق بكثير مما يبدو.
Motokura روى الموقف بابتسامة واضحة قائلاً: “كنا نجعل Miyamoto-san يراجع اللعبة بين الحين والآخر، لكنه بدلاً من التقدم فيها، ظلّ عالقاً في مكان واحد، يحفر ويكسر ويجرّب أشياء مختلفة. كان من الرائع مشاهدته يفعل ذلك، لأن الأمر أثبت أن هناك العديد من التفاصيل التي يمكن للاعبين الفضوليين اكتشافها.” هذه الجملة البسيطة تختصر تماماً طريقة تفكير Miyamoto الإبداعية، فهو لا يرى اللعبة كمجموعة مراحل يجب إنهاؤها، بل كعالم حيّ يجب أن يكون فضول اللاعب فيه جزءاً من التجربة نفسها.
المثير في هذا الموقف هو أنه يسلّط الضوء على ما جعل Miyamoto رمزاً لا يُضاهى في تصميم الألعاب. منذ أيام Donkey Kong الأولى في الثمانينيات، كان دائمًا مهتمًا بما يفعله اللاعب، لا بما يفترض أن يفعله. لطالما كان يؤمن بأن المتعة تنبع من التفاعل الطبيعي مع العالم داخل اللعبة، وليس من اتباع المسار المرسوم لها مسبقاً. لهذا السبب، نجد أن معظم ألعاب Nintendo تحمل طابعاً استكشافياً حتى وإن لم تكن ألعاب عالم مفتوح بالمعنى التقليدي. إنها ببساطة تشجعك على الفضول، على لمس كل زاوية، وتجربة كل احتمال، كما فعل هو بالضبط عندما جلس أمام Donkey Kong Bananza.
هذه النظرة غير التقليدية لطريقة اللعب ليست جديدة على Miyamoto. فقد تكررت مواقف مشابهة معه في عدة مشاريع أخرى. في Super Mario 64 مثلاً، كان أحد الأسباب التي جعلت نظام الكاميرا ثورياً هو حرصه على أن يشعر اللاعب بأنه داخل مساحة حقيقية يمكنه اكتشافها بحرية، وليس مجرد مسار خطي عليه أن يسير فيه. حتى في The Legend of Zelda: Breath of the Wild، نجد الفكرة ذاتها تتجسد بأجمل شكل، حين تمنح اللعبة الحرية الكاملة للاعب ليخوض التجربة بطريقته الخاصة، بلا قيود، وبلا أوامر واضحة. تلك الروح بالضبط هي التي جعلت ألعاب Nintendo مختلفة عن أي شيء آخر في السوق.
لكن المدهش هو أن Miyamoto لا يكتفي بوضع فلسفته على الورق أو في الاجتماعات، بل يطبقها فعلياً أثناء اختباره للألعاب. حين يمسك بيد التحكم، لا يبحث عن الأخطاء التقنية أو المشاكل البرمجية فقط، بل يحاول أن يعيش التجربة كما لو كان لاعباً عادياً. وربما لهذا السبب، تبدو ألعاب Nintendo وكأنها تمتلك “روحاً” مختلفة. لأنها ببساطة خضعت لاختبار الفضول الحقيقي قبل أي شيء آخر. ما فعله في Donkey Kong Bananza قد يبدو سلوكاً عشوائياً، لكنه في الحقيقة درس عميق في تصميم الألعاب: إذا وجد اللاعب شيئاً ممتعاً ليفعله في مكان واحد فقط، فهذا يعني أنك صممت عالماً غنياً بالاحتمالات.
من جهة أخرى، يوضح هذا الموقف العلاقة القوية بين Miyamoto وفريق التطوير الأصغر سناً في Nintendo. فبينما يتعامل بعض الأساتذة القدامى في الصناعة بأسلوب تقليدي أو سلطوي، نجد أن Miyamoto يشارك التجربة بطريقة إنسانية ومرحة. لا يفرض رأيه بصرامة، بل يترك أفعاله تتحدث بالنيابة عنه. مجرد مشاهدته يلعب بهذه الطريقة كفيلة بإلهام الفريق لمراجعة كل تفصيلة في اللعبة من منظور اللاعب العادي، وليس من منظور المصمم الذي يعرف ما يُفترض أن يحدث. وهذا بالضبط ما جعل Nintendo تحافظ على جودتها الفريدة لعقود طويلة، حتى في زمن تغيرت فيه معايير الصناعة بشكل جذري.
إذا تأملنا طريقة عمل Miyamoto، سنجد أن فلسفته تتلخص في فكرة بسيطة: اللعب هو تجربة إنسانية قبل أن يكون نظاماً تقنياً. اللاعب لا يريد فقط أن ينتصر أو يربح، بل يريد أن يكتشف ويضحك ويستغرب ويتفاعل. لذلك، من الطبيعي أن يهتم بأشياء تبدو “بلا معنى” بالنسبة للمبرمجين، لكنها في النهاية تخلق لحظة سحرية. إن رؤية Miyamoto يحفر في نفس المكان مراراً ليست عبثاً، بل بحثاً عن تلك اللحظة التي تجعل اللعبة حية في عين اللاعب. وكما قال Motokura، فإن مجرد مراقبته وهو يفعل ذلك كانت تجربة تعليمية بحد ذاتها.
بالمقارنة مع مطوري اليوم الذين يركزون كثيراً على الواقعية أو الرسومات الضخمة، يظل Miyamoto استثناءً. فهو لا يحتاج إلى تقنيات معقدة ليصنع تجربة عظيمة، بل يكتفي بفكرة ذكية وببضع تفاصيل صغيرة تثير فضول اللاعب. هذه البساطة المدروسة هي ما ميّز Nintendo لعقود، وجعلت ألعابها تناسب جميع الأعمار وتعيش طويلاً في ذاكرة من يلعبها. فحتى عندما تدخل عوالم مثل Mario Kart أو Pikmin أو Luigi’s Mansion، تجد دائماً تلك اللمسة التي تدعوك للتجربة الحرة والضحك من دون أن تدرك لماذا بالضبط تشعر بالمرح.
في النهاية، قصة Donkey Kong Bananza ليست مجرد حكاية عن لحظة اختبار عابرة، بل درس كامل في فلسفة التصميم التي بُنيت عليها Nintendo. إنها تذكير بأن الإبداع الحقيقي لا يولد من الأوامر، بل من الفضول، وأن اللعب ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل طريقة للتفكير والتفاعل مع العالم. وربما هذا هو السر في بقاء Miyamoto مرجعاً لكل جيل جديد من المطورين، لأنه لا يزال حتى اليوم يعلّمهم كيف ينظرون إلى اللعبة بعين اللاعب، لا بعين المبرمج.