عاد الجدل من جديد حول الحدود الفاصلة بين الإبداع البشري والتطور المتسارع في الذكاء الاصطناعي بعد الخطوة التي اتخذها استوديو Ghibli حين طلب من شركة OpenAI التوقف عن استخدام أعماله في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. ويبدو أن هذا النقاش الذي يتكرر كل بضعة أشهر لم يعد مجرد اختلاف عابر في وجهات النظر، بل أصبح قضية ثقافية واقتصادية ذات أبعاد واسعة تمس مستقبل صناعة الأنمي والسينما والتقنية في آن واحد. خلال الأسابيع الماضية لاحظ كثيرون انتشار موجة ضخمة من الصور المولدة بأسلوب رسم Ghibli عبر منصات التواصل، ومع أن الأمر في بدايته بدا طريفا للمتابعين، إلا أن الاستوديو رآه مؤشرا مقلقا يستدعي موقفا واضحا. فكرة أن بإمكان أي أداة ذكاء اصطناعي توليد مشهد يبدو مستوحى من روائع Hayao Miyazaki خلال ثوان قليلة ليست مجرد مزحة لطيفة بالنسبة لصناع المحتوى الذين أمضوا عقودا في تطوير أسلوبهم الفني الخاص. ومع تزايد عدد النماذج التي تحاول محاكاة هذا الأسلوب مثل تلك التي ظهرت داخل ChatGPT أو عبر خدمات مستقلة أخرى، أصبح السؤال الملح لدى الاستوديو والداعمين له هو هل يُسمح للذكاء الاصطناعي باستهلاك الأعمال الفنية من دون إذن أصحابها.
المشهد أصبح أكثر تعقيدا بعد انتشار نموذج Sora التابع لشركة OpenAI، والذي أثار ضجة كبيرة في فبراير الماضي بقدرته على توليد مقاطع فيديو ذات جودة مرتفعة وبأساليب بصرية متنوعة. ومع نمو عدد المستخدمين وتوسع الأدوات التي تبني على خدمات Sora 2، بدأ يظهر قلق واسع من أن هذه الأدوات قادرة على إنتاج مقاطع تحاكي أجواء أعمال Ghibli وغيرها من استوديوهات الأنمي اليابانية بشكل أقرب مما اعتاد الناس من قبل. أحد الأمثلة التي تداولوها مستخدمو الإنترنت كانت مقاطع شبيهة بأسلوب فيلم Spirited Away، حتى إن بعضهم تخيلوا أن اللقطة حقيقية أو مسربة من مشروع جديد. مثل هذه المواقف جعلت كثيرين داخل اليابان يشعرون بأن حدود الخصوصية الإبداعية أصبحت مهددة، لأن توليد محتوى يشبه أعمال الاستوديو من دون العودة إلى أصحابه يعطي انطباعا بأن أي أسلوب فني قد يصبح مباحا للمستخدمين والبرمجيات من دون رقابة واضحة. وبحسب الهيئة اليابانية المختصة بنشر المحتوى إلى الخارج، والتي تضم استوديو Ghibli ضمن أعضائها، فإن استخدام هذه المواد في عملية تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي يشكل انتهاكا لقوانين حماية الملكية الفكرية داخل اليابان، خصوصا فيما يتعلق بالأعمال ذات القيمة الثقافية العالية.
وحين نتمعن في الخلفيات التي دفعت الهيئة اليابانية إلى تقديم هذا الطلب، نجد أن الأمر يتجاوز مجرد اعتراض قانوني، بل يدخل في سياق الدفاع عن الإرث الفني الياباني. فاستوديو Ghibli ليس مجرد شركة تنتج أفلاما تجارية، بل هو مؤسسة تركت بصمة فريدة على مستوى العالم، وصنعت أعمالا تحولت إلى ذاكرة مشتركة لأجيال من المشاهدين. لذلك، يرى كثير من المتخصصين أن السماح لنماذج الذكاء الاصطناعي باستغلال هذه الأعمال يعطيها فرصة لابتلاع روح الفن الأصلي. وحتى لو لم يكن هذا هو قصد المطورين، فإن النتيجة الواقعية تظل واحدة. أحد المنتجين اليابانيين شبه الأمر بحادثة شهيرة حين قال عبارة استشهد بها كثيرون لاحقا، وهي أن “قيمة العمل الفني ليست في شكله النهائي فقط وإنما في المسار الذي مر به”. هذه الجملة التي نستطيع اعتبارها الاقتباس الوحيد في السياق تلخص شعورا متكررا لدى الفنانين الذين يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي يتجاوز تلك الرحلة الطويلة من الاجتهاد البشري ويصل مباشرة إلى النتيجة من دون المرور بالتجربة نفسها. وعلى الرغم من أن البعض يرى في هذا التطور ميزة تساعد الفنانين، هناك طرف آخر ينظر إليه كتهديد قد يجعل الصناعة أقل إنسانية وأقل عمقا مع مرور الوقت.
في الفقرة الرابعة، يصبح من الضروري تحليل تأثير هذه الأزمة على النقاش العالمي حول حماية المحتوى الإبداعي في عصر الذكاء الاصطناعي. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو هل يمكن اعتبار استخدام مواد محمية بحقوق نشر في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي ممارسة عادلة وغير مضرة بأصحاب الحقوق. بعض المختصين في التكنولوجيا يعتبرون أن عملية التدريب ليست سوى شكل من أشكال التحليل وليس إعادة استخدام مباشر، لذلك لا ينبغي التعامل معها كاستنساخ أو سرقة. بينما يرى الفنانون أن النتائج التي تنتج عن التدريب يمكنها أن تحاكي أعمالهم بدرجة عالية لدرجة أن المتلقي قد يخطئ في التمييز بين الأصلي والمزيف، وهذا بالنسبة لهم دليل كاف على أن العملية ليست بريئة كما تبدو. واللافت أن عددا من الدول بدأ يراجع قوانينه الخاصة بالملكية الفكرية لتحديد ما إذا كان تدريب الذكاء الاصطناعي يخضع للقيود نفسها التي يخضع لها الاستخدام التقليدي. وفي اليابان تحديدا، القضية أكثر حساسية لأن قطاع الأنمي يعتبر جزءا رئيسيا من الهوية الثقافية والاقتصادية. لذلك، موقف هيئة النشر اليابانية ليس مجرد رد فعل عابر، بل خطوة أولى نحو صياغة إطار قانوني جديد وعالمي قد يتطور خلال السنوات المقبلة.
أما الفقرة الخامسة والأخيرة، فمن المهم أن نقترب فيها من رأي الجمهور، لأن السؤال المطروح على مواقع التواصل كان مباشرا، هل تُعد عملية استخدام الأعمال المحمية في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي جريمة أم أنها شكل من أشكال التطور الطبيعي في التكنولوجيا. الآراء منقسمة بشكل واضح بين من يعتبر الذكاء الاصطناعي فرصة عظيمة لتجديد الفن وإتاحة أدوات جديدة للمبدعين، وبين من يرى فيه خطرا يهدد الفنانين ويقلل من قيمة الجهد الإنساني. بعض المستخدمين يشيرون إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يقدم خدمات كبيرة في مراحل الإنتاج، من كتابة التصورات الأولية إلى تحسين جودة الرسوم، ويعتبرون الخوف منه مبالغا فيه. في المقابل، هناك من يعتقد أن الأجيال الجديدة قد تنشأ وهي تظن أن المحتوى المولد آليا يساوي العمل الحقيقي، وهو ما يفقد الفن جزءا من روحه. ومن الواضح أن القصة لم تنته بعد، فطلب Ghibli لا يعني أن OpenAI ستتوقف فورا، بل قد يدخل الطرفان في مفاوضات أو حوار قانوني طويل. وبين هذه الآراء المتباينة يظل النقاش مفتوحا لأننا نعيش مرحلة تحول حقيقية تحاول فيها البشرية أن تفهم دور الذكاء الاصطناعي في مستقبل الفن والتقنية والمحتوى الإبداعي. وربما نحتاج إلى سنوات قبل أن تتشكل القوانين والقواعد النهائية التي تضبط العلاقة بين المبدعين والبشر والآلات. ومع ذلك، فإن خطوة Ghibli أعادت النقاش إلى الواجهة ومنحت المجتمع فرصة للتفكير في حدود الاستفادة والضرر في عالم يتغير بسرعة أكبر مما اعتدنا عليه.