يشهد المغرب لحظة محورية في مسار تطوره الصناعي، لحظة كان كثير من المهتمين يتوقعونها منذ سنوات لكنهم لم يعرفوا متى تحديدًا ستصل. الإعلان الذي خرجت به منصة متخصصة في مجال الطاقة أشار إلى أن مجموعة صينية قررت إنشاء أول مصنع لإنتاج الرقائق الإلكترونية في أفريقيا، وباستثمار يفوق مئة وخمسين مليون دولار. ورغم أن الأرقام وحدها كافية لتثير الانتباه، فإن ما جذب الأنظار أكثر هو مكان المشروع، إذ اختارت الشركة الصينية مدينة الناظور لإقامة هذا المصنع على مساحة تتجاوز مئة وثمانية وثمانين ألف متر مربع، في خطوة تبدو وكأنها بداية فصل جديد في علاقة المغرب بالصناعات المتقدمة. كثيرون تحدثوا عن الأمر بوصفه تحولًا اقتصاديًا، لكن البعض الآخر رأى فيه حدثًا استراتيجيًا يغيّر موقع البلاد على الخريطة التكنولوجية، خصوصًا أن صناعة الرقائق الإلكترونية لم تعد مجرد قطاع صناعي، بل أصبحت عصب التكنولوجيا الحديثة التي تحرك كل ما نستخدمه اليوم من أجهزة وهواتف وسيارات وحتى الأدوات المنزلية الذكية.
ويعود سبب الاهتمام الكبير بهذا المشروع إلى طبيعة الصناعة نفسها. إنتاج الرقائق الإلكترونية ليس مجرد تجميع قطع أو تشغيل آلات ضخمة، بل هو صناعة تعتمد على دقة عالية، ومعايير صارمة في الكيمياء والفيزياء، إضافة إلى تقنيات معقدة تتعلق بالهندسة الدقيقة والتحكم الحراري والبرمجة. بعض الدول احتاجت عقودًا كي تدخل هذا المجال، بينما ظل آخرون عاجزين عن اللحاق بالركب بسبب الكلفة العالية والمعرفة الفنية المعقدة. ولذلك، أن يقرر مستثمر أجنبي فتح مصنع من هذا النوع في أفريقيا للمرة الأولى، فهذا بحد ذاته رسالة واضحة بأن المنطقة تمتلك أرضية يمكن البناء عليها، وأن المغرب تحديدًا أصبح وجهة مفضلة لمثل هذه المشاريع. ومن يعرف خريطة الاستثمارات العالمية، يدرك أن الشركات لا تتخذ قرارًا بهذا الحجم بسهولة، بل بعد سنوات من الدراسات حول الاستقرار، واليد العاملة، والموقع الجغرافي، والبيئة القانونية، والبنية التحتية.
وقد حظي اختيار الناظور باهتمام خاص، ليس فقط لأنها منطقة معروفة بموقعها القريب من أوروبا، وإنما لأنها مدينة تعرف حاليًا ديناميكية اقتصادية وصناعية لافتة. فمنذ افتتاح ميناء “الناظور غرب المتوسط”، صار الحديث عن تحول المنطقة إلى بوابة صناعية وتجارية مسألة متوقعة، ومع هذا المشروع الجديد يبدو أن هذا التوقع بدأ يتحول إلى واقع. كثير من المتابعين يرون أن وجود مصنع رقائق إلكترونية بهذا الحجم سيجلب حوله شركات أخرى، سواء في مجال الإلكترونيات الدقيقة أو الخدمات اللوجستية أو حتى التكوين العلمي. فمن عادة هذا النوع من الاستثمارات أن يخلق سلسلة صناعية كاملة، تبدأ من المواد الأولية، وتمتد إلى النقل والتوزيع والتجميع، وقد تصل أيضًا إلى مراكز البحث والتطوير. وأفضل مثال على ذلك هو ما حدث في دول آسيوية مثل تايوان وكوريا الجنوبية، حيث أدى الاستثمار الأولي في الرقائق إلى بناء منظومة صناعية كاملة رفعت من مستوى الاقتصاد الوطني.
ومن النقاط التي أثارت الانتباه أيضًا هو اسم الشركة الصينية نفسها. مجموعة “Ningbo Alloy Materials” ليست شركة مغمورة، بل هي جزء من قطاع صناعي ضخم في الصين معروف بقدرته على إنتاج مواد عالية الدقة تُستخدم في الإلكترونيات والميكروتكنولوجيا. وجود شركة بهذا الحجم في المغرب يعني أن البلاد لم تعد فقط تبحث عن الاستثمارات التقليدية، بل بدأت تدخل مرحلة الاستثمارات التقنية المتقدمة، وهو ما يفتح الباب أمام تعاون مستقبلي بين الجامعات المغربية والمختبرات الدولية. ومن المتوقع أن يخلق المصنع مئات مناصب الشغل المباشرة، إضافة إلى آلاف الوظائف غير المباشرة، لكن الأهم أنه سيقدم خبرة تقنية جديدة إلى المهندسين المغاربة، ما يساعد على تشكيل جيل جديد يمتلك معرفة عملية في مجال دقيق يحتاج إليه العالم بأسره. وفي سياق هذا الاهتمام المتزايد، ورد في التقرير جملة لافتة تلخص جزءًا من أهمية المشروع، وجاء فيها: “إن اختيار المغرب لإنشاء أول مصنع للرقائق في أفريقيا يعد اعترافًا دوليًا بقدراته الصناعية وبيئته الاستثمارية”. هذا الاقتباس يعكس روح المرحلة التي يعيشها البلد، حيث باتت المنافسة في الصناعات المتقدمة ممكنة، ولم تعد مجرد حلم بعيد.
وفي خضم هذا التطور، لا يمكن تجاهل الخلفية العالمية لصناعة الرقائق. العالم يعيش منذ سنوات أزمة شبه مستمرة في هذا القطاع، بسبب ارتفاع الطلب من جهة، والصراعات الجيوسياسية بين القوى الكبرى من جهة أخرى. الأجهزة الحديثة تستهلك رقائق أكثر مما كان متوقعًا قبل عشر سنوات، والسيارات الكهربائية وحدها تحتاج إلى عشرات الرقائق الصغيرة التي تتحكم في كل وظائفها تقريبًا. هذا الضغط العالمي جعل الشركات تبحث عن مناطق جديدة لتوزيع الإنتاج، كي لا تبقى رهينة منطقة واحدة. وهنا يظهر دور المغرب الذي يمتلك موقعًا استراتيجيًا بين أوروبا وأفريقيا، واستقرارًا سياسيًا واقتصاديًا سمح له بجذب استثمارات كانت سابقًا تذهب إلى مناطق أخرى. ومع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي والأجهزة الذكية، سيزداد الطلب على الرقائق أكثر، مما يجعل وجود مصنع محلي قيمة إضافية حقيقية ليس فقط للمغرب بل للقارة بأكملها.
ولأن المشروع لا يُنظر إليه باعتباره حجرًا معزولًا، بل خطوة ضمن مسار طويل، فمن المتوقع أن يشجع هذا الاستثمار شركات أخرى على الدخول في السوق المغربية، سواء في قطاع الإلكترونيات الدقيقة أو في مجالات مرتبطة بها. وربما نرى خلال السنوات القادمة ظهور مصانع جديدة أو مراكز بحث صغيرة تمهد لبناء منظومة كاملة للصناعات عالية التقنية. كثير من الدول التي تقدمت صناعيًا لم تبدأ بكل شيء دفعة واحدة، بل بمشروع واحد كبير أسس لبنية معرفية، ثم تراكمت الخبرة عامًا بعد عام. ومع أن الطريق ما يزال طويلًا، إلا أن الخطوة الحالية تمنح المغرب مؤشرًا واضحًا على أنه يسير في الاتجاه الصحيح، وأن السنوات القادمة قد تحمل فرصًا إضافية للنهوض بصناعات تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة. بعض المحللين يرون أيضًا أن هذا النوع من المشاريع يساعد على تقليل التبعية الخارجية في قطاعات حساسة، خاصة في وقت أصبح فيه التحكم في التكنولوجيا عاملًا جيوسياسيًا لا يقل أهمية عن الطاقة أو الموارد الطبيعية.