كانت الساحة التقنية خلال الأيام الماضية تعج بالحديث عن قضية غير مألوفة تتعلق بسباق الذكاء الاصطناعي، بعدما كشفت صحيفة Wall Street Journal عن واقعة مثيرة أثارت جدلًا واسعًا في الولايات المتحدة والعالم. القصة باختصار تبدو أقرب إلى سيناريو فيلم سياسي، لكنّها هذه المرة حدثت بالفعل، إذ تمكنت شركة صينية ناشئة تحمل اسم INF Tech من الوصول إلى أكثر من ألفي بطاقة رسوميات من معمارية Nvidia Blackwell، وهي واحدة من أقوى المعماريات المخصصة للذكاء الاصطناعي في العالم. ما يجعل القصة أكثر غرابة ليس فقط حجم هاته البطاقات ولا قيمتها الهائلة، بل الطريقة التي وصلت بها الشركة الصينية إليها رغم القيود الصارمة التي وضعتها الحكومة الأمريكية لمنع مرور مثل هذا النوع من العتاد نحو الصين. كثيرون في الوسط التقني طرحوا السؤال ذاته: كيف تمكنت شركة صغيرة نسبيا من تجاوز إجراءات تحاصر حتى كبريات الشركات؟ ومن هنا انطلق الحديث عن سلسلة معقدة من التحركات، اشترك فيها عدة أطراف من دول مختلفة، حتى وصل الأمر إلى ما يشبه الثغرة القانونية التي فتحت الباب لهذا التحايل.
بدأت تفاصيل هذه العملية من الولايات المتحدة نفسها، حيث تواصل Nvidia بيع أحدث شرائحها الخاصة بالذكاء الاصطناعي إلى شركات أمريكية معتمدة، بحكم أن التعامل معها يخضع لقوانين تصدير دقيقة للغاية. ومن بين هذه الشركات، برز اسم Aivres، وهي شركة تتخصص في تجميع خوادم الذكاء الاصطناعي اعتمادًا على معالجات Nvidia. ورغم أن بعض التقارير أبدت شكوكًا حول احتمال وجود صلات غير مباشرة بينها وبين شركة صينية مدرجة على القائمة السوداء الأمريكية، فإن Aivres تبقى شركة أمريكية من الناحية القانونية، مما يمنحها حق شراء الشرائح دون قيود طالما التزمت بالقوانين القائمة. وهنا بدأ المسار الذي سيقود لاحقًا إلى أكبر التفافات شهدها قطاع الذكاء الاصطناعي خلال الفترة الأخيرة، خصوصًا أن الطلب عالمي وغير مسبوق على معمارية Blackwell التي تُعتبر محورًا رئيسيًا في الجيل القادم من الحوسبة.
وفي مرحلة لاحقة دخلت على الخط شركة اندونيسية تحمل اسم Indosat Ooredoo Hutchison، وهي شركة اتصالات ضخمة تمتلك نشاطًا واسعًا في مجال الخدمات السحابية. الشركة اشترت من Aivres الأمريكية اثنين وثلاثين حاملًا من خوادم GB200، وكل حامل يتضمن اثنين وسبعين بطاقة تعتمد على معمارية Blackwell، ليصل مجموع البطاقات التي انتقلت من الولايات المتحدة إلى إندونيسيا إلى 2304 بطاقة كاملة. وبحسابات السوق الحالية، تصل قيمة هذه الصفقة إلى أكثر من مئة مليون دولار، وهي قيمة تعكس حجم الطلب العالمي على هذا النوع من العتاد. في البداية، لم يبد الأمر خارجًا عن المعتاد؛ فشركة اتصالات كبرى بحاجة دائمًا إلى تطوير مراكز البيانات الخاصة بها، خصوصًا وأن قطاع الذكاء الاصطناعي يزداد توسعًا في آسيا، لكن ما لم يكن ظاهرًا في البداية هو وجود طرف ثالث كان ينتظر كل هذا العتاد ليقوم باستئجاره فور وصوله.
ومع مرور الوقت، بدأت تفاصيل أكثر وضوحًا في الظهور، حين تم الكشف أن الشركة الإندونيسية لم تكن تنوي استخدام هذا الكم الهائل من البطاقات لأغراضها الداخلية، بل كانت قد حسمت أمرها مسبقًا مع عميل صيني سيستأجر جميع الموارد السحابية التي تعتمد على هذا العتاد. وهنا ظهر اسم INF Tech، الشركة الصينية الناشئة التي لا تُعرف عنها الكثير من التفاصيل في الوسط التقني الدولي، لكنها فجأة أصبحت في قلب واحد من أكبر الملفات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي منذ بداية العام. الشركة، التي يقع مقرها في شنغهاي، بادرت بتوضيح موقفها في تصريحات رسمية للصحيفة الأمريكية، مؤكدة أنها لا تنشط في أي مجال قد تكون له علاقة بالقطاع العسكري وأنها تحترم القوانين المرتبطة بالتصدير والاستخدام. في المقابل، أكدت الشركة الإندونيسية من جهتها أنها تتعامل مع الزبائن الدوليين بالطريقة ذاتها، وأن سياستها واضحة: أي جهة تحترم القوانين يمكنها الاستفادة من خدماتها، وهو ما جعلها ترى الصفقة في إطارها السحابي فقط، دون الدخول في حسابات جيوسياسية.
النقطة التي أثارت النقاش في هذه القصة ليست مجرد وجود شركة صينية استأجرت موارد سحابية عبر شركة إندونيسية، فهذا أمر عادي في عالم مراكز البيانات. ما أثار الجدل فعليًا هو أن العملية، وإن كانت قانونية ظاهريًا، اصطدمت مع روح القوانين الأمريكية التي تهدف بالأساس إلى منع وصول الشرائح المتقدمة للصين بأي شكل. فبينما تمنع الولايات المتحدة تصدير هذا النوع من العتاد مباشرة إلى الصين، ظهرت هنا طريقة غير مباشرة اعتمدت على انتقال الشرائح إلى دولة ثالثة قبل أن تُحوَّل خدماتها نحو الصين عن طريق الاستئجار. وهذه الجزئية بالذات أثارت نقاشًا واسعًا حول مدى قدرة الحكومات على مراقبة حركة العتاد في عصر أصبحت فيه السحابة الوسيط الأكبر، خصوصًا مع التوسع المتزايد لخدمات الحوسبة البعيدة وارتفاع اعتماد الشركات على الاستئجار بدل الشراء المباشر. وبغض النظر عن التفسيرات القانونية، فإن الأمر أصبح مثالًا جديدًا على كيفية تغير قواعد اللعبة في أسواق الذكاء الاصطناعي، وأن الشركات باتت تبحث عن أي مسار ممكن للوصول إلى قدرات حوسبية متقدمة، حتى لو تطلب الأمر المرور عبر سلسلة طويلة ومعقدة من الوسطاء.