شهد المغرب خلال الأيام القليلة الماضية إحدى أهم المحطات في رحلته الرقمية الحديثة، حيث صادق مجلس الحكومة في اجتماع رسمي يوم الخميس على ثلاثة مشاريع مراسيم ترخص لشركات الاتصالات الوطنية بإحداث واستغلال شبكات الجيل الخامس للاتصالات. هذا القرار، الذي يأتي بعد سنوات من التطوير والتجارب، ليس مجرد إعلان إداري بسيط، بل يمثل نقطة تحول تؤسس لمرحلة جديدة في البنية الرقمية للمملكة. فإذا كنا قد عشنا انتقالًا تدريجيا من خدمات الجيل الثالث إلى الجيل الرابع، فإن دخول ال 5G يفتح الباب أمام طيف واسع من الفرص الاقتصادية والتقنية التي يمكن أن تدفع المغرب خطوة إضافية نحو المستقبل الرقمي العالمي.
ومن خلال الوثائق المعتمدة، حازت شركات اتصالات المغرب وMedi Telecom وWana Corporate على التراخيص الرسمية، وهو ما يؤكد أن سوق الاتصالات المحلي مقبل على منافسة أشد قوة، وتجديد نوعي للخدمات المقدمة للمواطنين والمؤسسات على حد سواء. ليس الأمر مجرد زيادة في سرعة الإنترنت أو تحسين جودة المكالمات كما اعتدنا سماعه في الحملات الترويجية، بل يتعلق بتقنية قابلة لخلق اقتصاد كامل مبني على البيانات فائقة السرعة وزمن استجابة شبه منعدم. تخيل مثلًا أنك تتحكم في روبوت طبي أو في مركبة ذاتية القيادة في الوقت الفعلي، أو أنك تشاهد فيديو بدقة 8K دون أدنى انتظار أو تقطيع. هذه ليست وعودًا خيالية، بل أهداف عملية قد تصبح واقعًا تدريجيًا مع انتشار شبكات الـ5G.
ولا يخفى أن تبني هذه التكنولوجيا في المغرب يأتي في إطار رؤية وطنية أوسع لتسريع التحول الرقمي وتعزيز التنافسية، خصوصا في القطاعات ذات القيمة الاقتصادية العالية مثل الصناعة الذكية، النقل الذكي، الصحة الرقمية، التعليم عن بعد، والخدمات المالية. لقد أظهرت السنوات الأخيرة مدى الحاجة إلى بنية رقمية قوية، خاصة خلال فترة ما بعد الجائحة، حين أصبح الإنترنت ليس مجرد وسيلة للتسلية والعمل عن بعد، بل شريان حياة للمؤسسات والمواطنين. لذلك، يمكن اعتبار إطلاق الجيل الخامس رسالة واضحة مفادها أن المغرب يستعد ليفرض نفسه كقطب رقمي إقليمي، وجسر بين أوروبا وإفريقيا في مجال التكنولوجيا والاتصالات.
ورغم أن الأمر يبدو بسيطا في ظاهر الإعلان الحكومي، إلا أنه جاء نتيجة مسار إداري وتقني طويل، انطلق مع إعلان الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات عن فتح المنافسة بين الشركات، وفقًا لمقتضيات القانون رقم 24.96 المتعلق بالبريد والمواصلات. وبعد تقييم دقيق ودراسة شاملة للملفات التقنية والالتزامات المقترحة من طرف الفاعلين الثلاثة، تمت المصادقة على دفتر التحملات من قبل اللجنة الإدارية المختصة في شهر يوليو من عام 2025، تحديدًا في الحادي عشر من يوليو وفق التقويم المغربي، وهو ما مهّد الطريق لاعتماد مراسيم الترخيص خلال هذا الشهر.
وفي هذا السياق، يبدو أن المغرب اختار أن يتعامل مع ملف الجيل الخامس بحكمة وبخطوات محسوبة، بدل الانجراف وراء سباق عالمي غير متكافئ. العديد من الدول التي استعجلت نشر هذه التقنية وجدت نفسها لاحقًا أمام تحديات مرتبطة بالبنية التحتية أو بالتكلفة أو حتى بالأمن السيبراني. لذلك، يمكن أن ننظر إلى النموذج المغربي باعتباره مقاربة متوازنة تهدف إلى الاستفادة من التقنية دون الوقوع في فخ الاندفاع غير الضروري. وكما قال أحد الخبراء المحليين في نقاش تقني هادئ لكنه معبر: “ليس المهم أن نكون أول من يشغل الـ5G، بل المهم أن نكون من بين الذين يشغلونها بشكل صحيح، ويحولونها إلى قيمة اقتصادية فعلية لا مجرد إعلان دعائي”. هذه الجملة تلخص مسار التفكير الوطني، وتعبر عن فهم ناضج لطبيعة التحول الرقمي في عالم اليوم.
وقد يطرح القارئ سؤالا بسيطا ولكنه منطقي: كيف سيتغير واقع الاتصالات فعليا؟ هل سيكون الفرق محسوسا فورا؟ الجواب هنا يتطلب بعض الواقعية. نشر الجيل الخامس ليس كبسة زر، إذ يحتاج إلى استثمارات في البنية التحتية وتوسيع شبكات الأنتينات والتجهيزات الداعمة، إضافة إلى تكييف بعض الأنظمة الحالية مع المتطلبات الجديدة. لذلك، من المتوقع أن يكون الإطلاق تدريجيًا حسب المناطق، مع تركيز أولي على المدن الكبرى والمراكز الاقتصادية. إلا أن التجربة العالمية تقول إن التأثير يبدأ واقعيًا حين تتوسع تغطية الشبكة ويزداد عدد الأجهزة والخدمات التي تعتمد عليها. تخيل مثلا أن النقل الحضري الذكي سيحتاج إلى هذه التقنية لتحسين تدفق معلومات المرور وربط الحساسات والكاميرات بشكل لحظي. كذلك المصانع المتقدمة التي تعول على Internet of Things، حيث كل آلة وكل روبوت بحاجة إلى اتصال مستقر فائق السرعة.
وبعيدا عن الجانب التقني، فإن دخول المنافسة بين الشركات الثلاث قد يكون له تأثير إيجابي على المستهلك، سواء عبر تحسين جودة الخدمات أو عبر إطلاق عروض تسويقية تنافسية لجذب المشتركين. من المعروف أن وجود أكثر من مزود قوي في السوق يدفع نحو الابتكار ويساهم في خفض الأسعار تدريجيًا. لذلك، من المتوقع أن نشهد خلال الأشهر المقبلة حملات تواصل واسعة تشرح للناس مزايا الجيل الخامس وتقدم باقات جديدة. حتى لو استغرقت الاستفادة الشاملة وقتًا، فمجرد دخول التقنية إلى السوق يضع ضغطا إيجابيا على الفاعلين لرفع مستوى خدماتهم وتطوير شبكاتهم الحالية من الجيل الرابع.
ولأن العالم الرقمي ليس مجرد خدمات اتصال، فإن خطوة اليوم تمثل أيضا دعوة للشركات الناشئة والمبدعين الرقميين في المغرب لاستشراف فرص جديدة. يكفي أن نلاحظ كيف حولت دول أخرى هذه التقنية إلى منصات لإطلاق أفكار مبتكرة في مجالات الألعاب السحابية، التعلم الافتراضي، الأنظمة الذكية للمستشفيات، وحتى التجارب الترفيهية المبنية على الواقع الممتد. ومع وجود شباب مغربي موهوب وشركات محلية صاعدة في مجال التكنولوجيا، قد يكون الجيل الخامس بوابة لتجارب مغربية رائدة في المنطقة.
وفي النهاية، إذا أردنا تبسيط الصورة للقارئ العادي الذي لا يتابع كل تفاصيل عالم الشبكات، فيمكن القول إن هذه الخطوة تشبه فتح طريق سريع جديد يربط مدن التكنولوجيا والمستقبل بسرعة أعلى بكثير مما تعودنا عليه. قد لا نشعر بالتغيير الكامل في اليوم الأول، لكن الطريق أصبح موجودا، والسيارات قريبًا ستبدأ بالمرور، ثم يزداد عددها، ويصبح المشهد جزءًا من واقعنا اليومي. المغرب يخطو خطوة إلى الأمام، بهدوء وثقة، وفي الأفق بوادر تحول رقمي أكبر مما يبدو في أول وهلة.