في خبرٍ شكّل صدمةً حقيقية لعشّاق الألعاب الكلاسيكية وللمتابعين القدامى لأستوديو Rare البريطاني، أعلن المخرج المخضرم Gregg Mayles رحيله عن الفريق بعد مسيرة امتدت لأكثر من ستة وثلاثين عامًا. نعم، ستة وثلاثون عامًا من العمل المتواصل داخل أحد أكثر الأستوديوهات تأثيرًا في تاريخ ألعاب الفيديو، تنتهي اليوم بصمتٍ يحمل نكهة الوداع الطويل والمليء بالذكريات.
Mayles، الذي يُعدّ أحد الأعمدة المؤسسة لهوية Rare، كتب على حسابه في منصة X (تويتر سابقًا) منشورًا مقتضبًا أعلن فيه أن يومه الأخير مع الفريق قد انتهى، وأنه يغادر الشركة التي شكلت جزءًا من حياته منذ شبابه الأول. لم يتطرق إلى تفاصيل الأسباب وراء قراره أو ما إذا كان يعتزم الانتقال إلى مشروع جديد، لكنه عبّر عن امتنانه العميق للفريق وللجماهير التي رافقته خلال هذه العقود الطويلة.
رحيل Gregg Mayles ليس مجرد خبرٍ إداري عابر. نحن نتحدث عن الرجل الذي ساهم في صياغة روح Rare نفسها، والذي كانت بصمته واضحة في ألعاب خالدة تركت أثرًا لا يُمحى في ذاكرة اللاعبين. منذ أيام Donkey Kong Country في تسعينات القرن الماضي على Super Nintendo، مرورًا بتحفة الجيل الذهبي Banjo-Kazooie على Nintendo 64، ووصولًا إلى تجارب لاحقة مثل Viva Piñata وGrabbed by the Ghoulies، كان Mayles حاضرًا دومًا في قلب كل مرحلة من مراحل تطور Rare، يبتكر ويقود ويغامر.
ولعلّ ما يجعل خبر رحيله مثيرًا للحزن هو أن Gregg لم يكن مجرد مخرج أو مصمم ألعاب، بل كان رمزًا لجيل كامل من المطورين البريطانيين الذين وضعوا Rare في مصاف الأسماء الأسطورية إلى جانب Nintendo وCapcom وSega في فترة التسعينات. يكفي أن نذكر أن Donkey Kong Country التي شارك في إخراجها كانت بمثابة الثورة التقنية الأولى في رسوم ألعاب المنصات، حيث استطاعت Rare آنذاك أن تقدم تجربة بصرية مذهلة بفضل استخدام رسوم مُصممة بتقنية CGI ثلاثية الأبعاد ثم تحويلها إلى نماذج ثنائية البُعد، وهو إنجاز لم يسبق له مثيل في تلك الحقبة.
أما بالنسبة إلى Banjo-Kazooie، فهي اللعبة التي يربطها الكثيرون باسم Gregg Mayles أكثر من أي شخص آخر داخل الفريق. تلك اللعبة لم تكن مجرد عنوانٍ جديد، بل كانت بمثابة هوية كاملة لعصر Nintendo 64. بأسلوبها المرح والموسيقى التي لا تُنسى، والمزج العبقري بين المنصات والاستكشاف والفكاهة البريطانية اللطيفة، رسخت Banjo-Kazooie مكانتها كأحد أعظم ألعاب Rare على الإطلاق، ويُنسب الفضل إلى Mayles في رسم ملامحها وخلق شخصياتها بروحٍ مفعمة بالخيال والدفء.
خلال مسيرته الطويلة، لم يكن Gregg مجرد مبدع داخل الأستوديو، بل كان شاهداً على تحولات Rare عبر العقود. فقد عاش مجدها خلال فترة تعاونها الوثيق مع Nintendo، ثم عايش مرحلة الانتقال المثيرة للجدل بعد استحواذ Microsoft على Rare في سنة 2002. ورغم أن بعض الجماهير شعرت آنذاك بأن هوية Rare تغيرت تدريجيًا، ظل Mayles عنصرًا ثابتًا يحاول الحفاظ على جوهر الإبداع الذي ميز الفريق منذ بدايته.
لقد كان من الواضح دائمًا أن Rare بالنسبة له ليست مجرد مكان عمل، بل بيتٌ ثانٍ. في مقابلات سابقة، كان يقول مازحًا إنه قضى داخل Rare وقتًا أكثر مما قضاه في منزله، وهي جملة تكشف عمق علاقته بالشركة ومشاريعه. في أحد تصريحاته خلال تطوير Viva Piñata قال ذات مرة:
“اللعبة ليست مجرد زهور وألوان، إنها دعوة للناس كي يروا الجانب المختلف من Rare، الجانب الذي لا يخاف من الحلم حتى في عالم الألعاب الملونة.”
عبارة تختصر فلسفة Gregg الإبداعية، والتي كانت قائمة دائمًا على التجريب وكسر التوقعات.
رغم كل ذلك، فإن خبر رحيله لم يكن مفاجئًا تمامًا للبعض في الصناعة، خاصة بعد أن تراجع ظهوره العلني في السنوات الأخيرة، وابتعاده التدريجي عن قيادة المشاريع الجديدة مثل Everwild، اللعبة الغامضة التي تم الإعلان عنها في مؤتمر Xbox سنة 2019 قبل أن تدخل مرحلة تطوير صعبة وتختفي أخبارها تقريبًا. تشير التقارير إلى أن Gregg كان جزءًا من الفريق الإبداعي في المراحل الأولى، لكنه انسحب تدريجيًا بعد تغييرات داخلية في الرؤية الفنية للمشروع.
من الواضح أن Rare تعيش مرحلة انتقالية معقدة، خصوصًا بعد إطلاق Sea of Thieves التي أصبحت أحد أنجح مشاريعها في عهد Microsoft. اللعبة حققت نجاحًا مذهلًا واستطاعت بناء مجتمع لاعبين ضخم ونشط، لكنها في الوقت نفسه مثّلت تحولًا جذريًا عن الأسلوب القصصي الذي اشتهرت به Rare سابقًا. ربما كان ذلك أحد الأسباب التي دفعت Gregg Mayles إلى التفكير في ترك المجال لوجوه جديدة تحمل الرؤية الحديثة للأستوديو، بينما يحتفظ هو بإرثه الذي لا يمكن لأي مطور نسيانه.
رحيل مخرج بحجم Gregg يفتح الباب أمام تساؤلات كثيرة حول مستقبل Rare. هل ستستمر الشركة في التوجه نحو الألعاب الخدمية والأنماط الجماعية؟ أم ستعود يومًا إلى صنع التجارب الكلاسيكية التي كانت سبب مجدها؟ حتى الآن لا توجد مؤشرات واضحة، لكن المؤكد أن Rare، كما عرفها اللاعبون في التسعينات، فقدت أحد أهم عقولها الإبداعية.
ما يجعل هذه اللحظة مؤثرة بحق هو أن Rare اليوم لم تعد تلك الشركة الصغيرة التي كانت تصنع المعجزات داخل مكتبٍ ريفي في إنجلترا. لقد أصبحت جزءًا من منظومة Microsoft العملاقة، تحكمها استراتيجيات السوق ومتطلبات المنصات. ومع ذلك، تبقى روح Gregg Mayles مغروسة في كل زاوية من إرث Rare: في المغامرات المليئة بالروح، في الشخصيات التي لا تُنسى، وفي تلك اللمسة السحرية التي جعلت ألعابهم تبدو مختلفة عن أي شيء آخر.
ربما سيأخذ Gregg بعض الوقت للراحة بعد هذه الرحلة الطويلة، وربما يعود في المستقبل بمشروع مستقل يعكس حبه القديم لصناعة الألعاب كما بدأها أول مرة. في كل الأحوال، مكانه في ذاكرة اللاعبين محفوظ. فكل من لمس Banjo-Kazooie أو تسلق الأشجار في Donkey Kong Country أو حتى بنى حديقته في Viva Piñata، قد عاش جزءًا من خياله. تلك الألعاب لم تكن مجرد ترفيه، بل كانت رسائل دفءٍ وإبداع من مطورٍ أحب فنه حتى النهاية.
اليوم، حين نقرأ خبر مغادرته، لا نشعر بالحزن بقدر ما نشعر بالامتنان. لأن القليل فقط من صناع الألعاب يستطيعون القول إنهم رسموا البسمة على وجوه الناس لعقودٍ كاملة. Rare كانت مختلفة لأن أشخاصًا مثل Gregg Mayles كانوا فيها، والجيل الجديد من المطورين سيواصل الطريق على الأساس الذي بناه هو وزملاؤه.
الزمن وحده سيكشف لنا ما إذا كانت Rare قادرة على استعادة روحها القديمة، لكن ما هو أكيد أن إرث Gregg سيبقى حيًا في ذاكرة الألعاب إلى الأبد. وكما كتب أحد اللاعبين تعليقًا على الخبر:
“من غير Gregg، Rare ليست Rare التي نعرفها.”
جملة بسيطة لكنها تختصر مشاعر الملايين حول العالم الذين كبروا على ألعابه، والذين يدركون أن نهاية رحلة كهذه لا تُقاس بالحزن، بل بالتقدير.