لم يكن من السهل على المهتمين بعالم التقنية أن يتجاهلوا التحولات التي شهدتها شركة Meta خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا منذ اللحظة التي قدّم فيها Mark Zuckerberg رؤيته الطموحة لتحويل الإنترنت إلى فضاء ثلاثي الأبعاد كامل يعتمد على الواقع الافتراضي. كانت تلك المرحلة مثيرة للدهشة عند كثير من المستخدمين، حيث بدا أن الشركة تستعد لرسم ملامح حقبة جديدة تقود فيها صناعة المنصات الاجتماعية نحو عالم مختلف كليًا عما ألفناه. ومع كل عرض تقني كانت Meta تنظمه، كانت الفكرة تتسع أكثر، وتتعمق أكثر، وتبدو أكبر من مجرد مشروع جانبي، لكن يبدو أن هذا الحلم العملاق بدأ يتراجع أمام حقائق السوق وضغوط الاستثمار والتحولات السريعة في الذكاء الاصطناعي.
لم يكن مشروع Horizon Worlds ولا أجهزة Quest مجرد تجارب عابرة؛ بل حاول Zuckerberg أن يجعل منها بوابة واسعة لعصر الميتافيرس الذي تخيل أنه سيصبح بديلًا لطريقة تواصل البشر والعمل عن بعد. ومع ذلك، ومع مرور الشهور والسنوات، بدأت أرقام المستخدمين الفعليين والإقبال الحقيقي على التجربة تكشف أن الواقع لم يتحرك في الاتجاه الذي توقّعته Meta. صحيح أن بعض الشركات الكبرى حاولت اللحاق بالفكرة في البداية، لكن أغلبها اتجه لاحقًا نحو تقنيات أخرى أكثر قابلية لنمو سريع، خصوصًا مع انفجار موجة الذكاء الاصطناعي خلال العامين الماضيين. وبالتزامن مع ذلك، بدأت أسئلة كثيرة ترتفع حول مدى جدوى استمرار الشركة في ضخ الموارد بشكل شبه مفتوح في مشروع لم يؤت ثماره كما كان مخططًا له.
تقول تقارير صحفية حديثة إن Zuckerberg أنفق حوالي 77 مليار دولار خلال خمس سنوات على مشروع الميتافيرس، في محاولة لصناعته من الصفر، وبناء عالم افتراضي يشبه الألعاب الضخمة ولكنه موجه لعدة أغراض، من الاجتماعات إلى الترفيه وتقديم الخدمات الرقمية. ومع ذلك، فإن العائد التجاري بقي محدودًا جدًا، وهو أمر سبق وأعرب عنه عدد من محللي السوق الذين كانوا يصفون المشروع بأنه “رهان كبير على مستقبل غير مضمون”. ربما لم يكن Zuckerberg مستعدًا للاعتراف بفشل الفكرة في وقت مبكر، لكنه وفقًا لما كشفت عنه التقارير الأخيرة، يبدو أنه وصل إلى قناعة داخلية بأن الطريق لم يعد يستحق الاستمرار بنفس الوتيرة. وقد جاء التحول الواضح عندما بدأ الاهتمام العالمي بالذكاء الاصطناعي يقفز إلى مستويات غير مسبوقة، مما دفع Meta إلى إعادة ترتيب أولوياتها وميزانياتها.
وتشير التقارير إلى أن Zuckerberg قرر تقليص قسم Reality Labs المسؤول عن تطوير تقنيات الميتافيرس، وتحويل جزء كبير من الموارد إلى الذكاء الاصطناعي والأجهزة القابلة للارتداء، ضمن خطة ميزانية سنة 2026. هذا القرار لا يعني إغلاق باب الميتافيرس بالكامل، لكنه يعكس إدراكًا بأن السباق التقني الحقيقي هذه السنوات أصبح في مكان آخر. ومن الطبيعي أن يشعر أي مراقب لهذا القطاع أن Meta لا تريد أن تتأخر أكثر عن منافسين مثل OpenAI وGoogle وMicrosoft، الذين يقودون ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي والأنظمة الذكية المتقدمة. وحتى لو كانت Meta تمتلك بنية تحتية قوية في هذا المجال، فإن المحافظة على القدرة التنافسية تتطلب تركيزًا أكبر واستثمارات أكثر دقة، وهو ما يبرر هذا التحول.
الأمر اللافت أن هذا التغيير لا يأتي من فراغ، بل يعكس تحولًا عالميًا في رؤية الشركات الكبرى لمستقبل التقنية. فمنصة مثل Instagram وWhatsApp لم تعُد تكتفي بوظيفتها الأساسية، بل تحاول Meta دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي فيها بطرق مختلفة، سواء في التوصيات أو التحليلات أو الأدوات الإبداعية الموجهة للمستخدمين وصناع المحتوى. وهذا النوع من الدمج يوفر قيمة ملموسة وسريعة، على عكس الميتافيرس الذي يتطلب سنوات طويلة حتى ينضج من حيث البنية التحتية والتبني الجماعي. ومن هنا يمكن فهم لماذا اتجهت Meta لتقليل الإنفاق على مشروع كان يومًا ما الأكبر في تاريخ الشركة، رغم أنه لم يعد قادرًا على مواكبة التحولات التجارية.
إلى جانب ذلك، يبدو أن الأجهزة القابلة للارتداء أصبحت محورًا جديدًا لاهتمام Meta، خصوصًا في ظل الشراكة التي تجمعها مع Ray-Ban في مجال النظارات الذكية. هذه المنتجات تحظى باهتمام متزايد لأنها تجمع بين الذكاء الاصطناعي والتصميم العصري والاستخدام العملي اليومي، وهو ما يجعلها أقرب إلى نجاح تجاري مضمون، مقارنة بالميتافيرس الذي ما زال يعاني من فجوة كبيرة بين الفكرة والواقع. المستخدم العادي غالبًا لا يبحث عن عالم كامل ليقضي فيه يومه، لكنه يحتاج أدوات تساعده على الإنجاز السريع. وهذا ما أدركته Meta في الوقت المناسب تقريبًا.
من الناحية العملية، لا يعني هذا التحول أن Meta ستتخلى نهائيًا عن رؤيتها القديمة، لكنها على الأقل تدرك أنّ الميتافيرس لن يكون مشروع الشركة المركزي كما كان في السابق. وربما يشبه الأمر تلك المشاريع التقنية الضخمة التي تبدأ بضجة واسعة، ثم تنحسر تدريجيًا عندما تظهر اتجاهات جديدة تقود السوق. وفي النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل سيعود Zuckerberg يومًا للرهان من جديد على مستقبل ثلاثي الأبعاد؟ الجواب ليس واضحًا الآن، لكن المؤكد أن اتجاه الشركة في السنوات المقبلة سيتركز بشكل أكبر على الذكاء الاصطناعي باعتباره المحرك الأكبر لكل ما يحدث في عالم التكنولوجيا.