تبدو حركة التكنولوجيا هذه الأيام أشبه بسباق محموم يتطلب من الشركات العريقة أن تراجع تاريخها كل عدة سنوات، وأن تعيد النظر في إرثها الصناعي بحثا عن نقطة انطلاق جديدة تناسب اللحظة الراهنة. وضمن هذا السياق المتحول، تظهر شركة Nokia الفنلندية بمثابة مثال حي على قدرة مؤسسة تاريخية على تبديل جلدها مرة بعد أخرى، من أيام إنتاج الورق والمطاط قبل مائة وخمسين عاما، إلى مرحلة الهواتف المحمولة التي وضعتها في قمة العالم، وصولا إلى الحقبة الحالية التي جعلت من الذكاء الاصطناعي المحرك الرئيسي لأكبر التحولات التقنية. لم يكن غريباً أن يحتل اسم الشركة مساحة واسعة في التقارير الاقتصادية خلال الأيام الماضية، خصوصا بعد نشر تقرير جديد من Bloomberg كشف جانبا مهما من خطتها الاستراتيجية للتعامل مع الثورة الحالية.
يقدم التقرير صورة دقيقة عن شركة تعيش لحظة انتقالية، إذ لم يعد يكفي أن تعتمد على ذكريات الماضي أو على حضورها التقليدي في قطاع الاتصالات. العالم يتغير بسرعة، والطريق نحو المستقبل لن يمر إلا عبر الذكاء الاصطناعي الذي بات أشبه بالمادة الخام الجديدة بالنسبة لصناعة الشبكات. وسط هذا المشهد، أعلنت Nokia عن خطوة لافتة تتمثل في دخول شراكة عميقة مع Nvidia، الشركة التي أصبحت بدورها اسما ملازما لموجة الذكاء الاصطناعي المعاصرة، سواء من خلال معالجات الرسوميات أو الشرائح الخاصة بالمراكز السحابية العملاقة. وما يجعل الخطوة مثيرة للاهتمام هو أنها لم تأت مجرد تعاون عابر أو تفاهم محدود، بل ترافقت مع شراء Nvidia لحصة تبلغ 2.9% من أسهم Nokia بقيمة تقارب مليار دولار، وهو رقم لا يمكن النظر إليه بوصفه صفقة مالية عادية، بل باعتباره إشارة قوية إلى حجم الرهان الذي تضعه Nvidia على الدور الذي يمكن أن تلعبه Nokia في خريطة الاتصالات القادمة.
ومن الواضح أن المعنى الحقيقي للخبر لا يتعلق بالأرقام وحدها. التقرير يشير إلى أن الهدف من الشراكة هو استثمار تقنيات Nvidia الحوسبية في دعم برمجيات الجيلين الخامس والسادس التي تعمل Nokia على تطويرها، وهو ما يعني أن الشركة الفنلندية تسعى إلى بناء طبقة جديدة من منتجات الشبكات تعتمد على الذكاء الاصطناعي ليس فقط لتحسين الأداء، بل لخلق جيل جديد من الخدمات يتوقع أن يكون مختلفا جذريا عما نعرفه اليوم. الأمر يشبه محاولة إعادة تصميم البنية التحتية للاتصالات بحيث تصبح شبكات المستقبل أكثر قدرة على التعلّم والتكيّف، بما يجعلها قادرة على التعامل مع مليارات الأجهزة المتصلة وتحميلات كثيفة للبيانات. نقطة التحول هنا تكمن في إدراك Nokia أنها لن تستطيع خوض هذا الطريق وحدها، وأن الاستفادة من خبرات Nvidia يمثل ما يشبه ربط العربة بحصان قوي قادر على دفعها إلى الأمام بسرعة مضاعفة.
وتسرد Bloomberg تفاصيل إضافية تجعل الصورة أكثر وضوحا. فقد واصلت Nokia خلال الأشهر الماضية وضع استراتيجيات داخلية جديدة تقوم على تبسيط العمليات والتركيز على التقنيات المتقدمة، خصوصا في القطاعات التي ترتبط مباشرة بالذكاء الاصطناعي. الشركة التي كانت ذات يوم رمز الهواتف المحمولة تسعى الآن إلى تثبيت اسمها في عالم الشبكات الذكية، متجاوزة مرحلة الأجهزة نحو مرحلة تعتمد على البرمجيات المتقدمة وخدمات الاتصالات ذات القيمة العالية. إعادة الابتكار هذه لا تأتي من فراغ، بل من إدراك حقيقي لحجم التغيرات التي يعيشها القطاع. فمنذ سنوات، لم يعد بإمكان الشركات التي تعمل في مجال الشبكات أن تعتمد على البنى التقليدية، حيث أصبح الزبائن، سواء حكومات أو شركات عالمية، يطالبون بحلول أكثر تطورا تضمن استقرار الشبكات ورشاقتها وقدرتها على التنبؤ بالأعطال أو تقليل استهلاك الطاقة.
ويشير التقرير أيضا إلى أن التحولات الاقتصادية خلال العام الماضي أثرت بشكل واضح على نتائج الشركة، وهذا ما دفعها إلى تبني هذه الاستراتيجية الجريئة. فقد جاء إعلان Nokia بعد فترة شهدت فيها الشركة تراجعاً استثنائياً في الأرباح نتيجة عوامل عالمية مثل الرسوم الجمركية وضعف الدولار وتباطؤ الطلب على بعض خدمات البنية التحتية. هذه الظروف جعلت الحاجة لإعادة تشكيل الذات أكثر إلحاحا، ومع ذلك فإن ما يلفت الانتباه هو طريقة تعامل الشركة مع الموقف، إذ اختارت مسارا استباقيا يعتمد على الاستثمار في الاتجاهات المستقبلية بدلا من الاكتفاء بمحاولات ترميم النتائج المالية قصيرة المدى.
ويمكن القول إن شراكتها مع Nvidia كانت اللحظة التي تحولت فيها الاستراتيجية من مجرد خطط مكتوبة إلى واقع يتشكل. شراء حصة من الأسهم أغلق الباب على أي تأويلات تتعلق بتعاون محدود، وفتح الباب أمام مرحلة طويلة الأمد من العمل المشترك. في هذا السياق، تبدو عبارة Bloomberg عن أن Nokia تربط عجلتها بأحد أقوى خيول القرن الواحد والعشرين تعبيرا دقيقا عن طبيعة الخطوة. Nvidia ليست مجرد شركة تصنع الشرائح، بل أصبحت منصة دولية تتحكم في توازنات سوق الذكاء الاصطناعي، وهذا يجعل الرهان عليها خطوة محسوبة لكل من يريد حجز مقعد في مستقبل التكنولوجيا.
ومع كل ذلك، فإن إعادة ابتكار Nokia ليست مجرد مسألة شراكة أو اتفاقيات مالية، بل هي محاولة شاملة لإعادة تعريف هويتها في عالم يتغير بسرعة. الشركة تمتلك أكثر من مائة وخمسين عاما من التاريخ، لكن قوة هذا التاريخ لن تكون ذات قيمة إذا بقيت حبيسة الماضي. الطريقة التي تتعامل بها اليوم مع التحولات الرقمية تشير إلى أن إدارتها الحالية تعي جيدا التحديات، وتعرف أن العالم في طور بناء بنية تحتية تعتمد على الذكاء الاصطناعي في كل شيء من الاتصالات إلى المدن الذكية. ولعل النقطة اللافتة أن الشركة تبدو وكأنها تستعيد روح الجرأة التي ميزت مرحلتها الذهبية خلال عصر الهواتف المحمولة، حين كانت قادرة على اقتحام الأسواق وتقديم حلول مبتكرة جعلتها القوة الأولى في العالم.
من زاوية أخرى، يمكن النظر إلى هذا التحول بوصفه دليلا على قدرة الشركات الأوروبية على التجدد. فالسوق الأميركي يسيطر اليوم على جزء كبير من صناعة الذكاء الاصطناعي عبر شركات مثل Google وMeta وMicrosoft، بينما تقود Nvidia موجة المعالجات المتقدمة. دخول Nokia إلى قلب هذا المشهد يعطي بعدا إضافيا للتوازن الدولي، ويعيد توجيه النظر نحو الشركات الأوروبية التي تمتلك خبرة عميقة في هندسة الشبكات. ومع ذلك، تبدو المنافسة شرسة لأن شركات مثل Samsung وEricsson تتحرك بدورها بقوة لفرض وجودها، ولم يعد هناك مجال للتراخي لمن يريد الحفاظ على موقع فاعل في القطاع خلال العقد القادم.
ورغم الصورة الوردية التي يمكن رسمها، إلا أن الطريق ليس سهلا. المشاريع المرتبطة بالشبكات الذكية تحتاج إلى استثمارات ضخمة وبنية تحتية موازية وتحسينات متواصلة، إضافة إلى تعاون مع الحكومات وشركات الاتصالات في عشرات الدول. ومع ذلك، فإن الشراكة مع Nvidia تمنح Nokia ما يكفي من الثقة للتقدم خطوة بعد أخرى في هذه الرحلة. واللافت أن هذه الخطوة جاءت بعد فترة قصيرة من إعلان الشركة استراتيجية شاملة جديدة تركز على جعل عملياتها أكثر بساطة وأقل استنزافا للموارد. هذه القرارات تشير إلى أن Nokia تحاول الانتقال من مرحلة التشتت إلى مرحلة الانضباط الاستراتيجي، وأنها تدرك أن مستقبلها لن يبنى على تعدد الخطوط قدر ما سيبنى على عمق التخصص في قطاع الذكاء الاصطناعي والشبكات المتقدمة.
وفي ختام التقرير، تبدو الصورة واضحة: Nokia لم تعد الشركة التي عرفها العالم في العقد الأول من الألفية، لكنها ليست كذلك الشركة التي كانت تصنع الورق قبل قرن ونصف. إنها كيان جديد يتشكل عند نقطة التقاء بين خبرة الاتصالات القديمة وصعود الذكاء الاصطناعي، وهذا ما يجعل الشهور القادمة حاسمة بالنسبة لها. ومن المرجح أن نشهد المزيد من التفاصيل حول طبيعة المشاريع المشتركة بينها وبين Nvidia، وربما نرى تأثير الشراكة على منتجاتها في وقت أقرب مما نتوقع. الواقع أن الشركات التي تنجح اليوم ليست تلك التي تمتلك أكبر إرث، وإنما تلك التي تعرف كيف تعيد ابتكار نفسها في الوقت المناسب.