يبدو أن الابتكار الذي خرج من المعهد الملكي للتكنولوجيا KTH ليس مجرد اكتشاف عابر، بل خطوة جريئة نحو جيل جديد تمامًا من المواد التي قد تعيد رسم ملامح التكنولوجيا والهندسة خلال السنوات المقبلة. تخيّل أن يتحول الخشب، الذي نعرفه كمادة تقليدية ثقيلة الملمس وغير شفافة، إلى مادة قادرة على تمرير الضوء بقوة وانتظام، مع احتفاظها بصلابة تتفوق حتى على الزجاج الذي نعتمد عليه يوميًا في النوافذ والواجهات. ما قام به الباحثون الويلزيون في KTH هو أنهم أزالوا مادة اللجنين من الخشب الطبيعي، وهي المادة المسؤولة عن لونه الداكن وعدم نفاذيته للضوء، ثم عالجوا الخشب ببوليمر حيوي يمنحه مستوى عاليًا من الشفافية والمرونة. وفي النهاية حصلوا على لوح خشبي شفاف أقوى بثلاث مرات من الزجاج، وفي الوقت نفسه أخف وزنًا، وأكثر استدامة، وقابل للتحلل، وقادر على أداء وظائف جديدة لم يكن الخشب قادرًا عليها من قبل. وإذا أردنا وصف هذه المادة بشكل مبسّط للقارئ، فهي أشبه بلوح زجاجي، لكن بقلب خشبي يجمع بين القوة والمرونة والقدرة على التكيف الحراري، وهي مواصفات مهمة للغاية في عالم البناء الأخضر والتقنيات المستقبلية.
هذا النوع من المواد ليس مجرد تجربة مخبرية كغيرها من الابتكارات التي لا تتجاوز مرحلة النشر العلمي، بل يُقدّم حلولًا عملية لمشكلات طويلة الأمد يعاني منها قطاع البناء، خصوصًا استهلاك الطاقة واعتماد المباني على مواد يصعب إعادة تدويرها أو تصنيعها بشكل مستدام. فالخشب الشفاف يمكنه التخلي عن الكثير من القيود التي يفرضها الزجاج التقليدي، خصوصًا في التعامل مع الحرارة والضوء. وعلى عكس الزجاج الذي يميل إلى تسريب الحرارة وخلق وهج مزعج داخل المباني، يتميّز الخشب الشفاف بقدرته على الاحتفاظ بالحرارة الداخلية بطريقة طبيعية، مما يجعله خيارًا مثاليًا للمناطق الباردة التي تحتاج إلى حلول تقلّل من استهلاك الطاقة في التدفئة. كما أنه يقدّم توزيعًا متوازنًا للضوء، فيحدّ من الانعكاسات القوية والوهج الذي يسببه الزجاج في النهار، وهي نقطة قد لا ينتبه لها الكثيرون، لكنها تؤثر فعليًا على راحة المستخدمين داخل المباني وعلى أداء الأنظمة الإلكترونية التي تتأثر بالضوء المباشر. ويمكن القول إن هذه المادة الجديدة تجمع بين ما نحبّه في الزجاج وما ينقصه من ناحية الأداء الحراري، وهو ما يكاد يجعلها مرشّحًا قويًا ليكون بديلاً فعليًا عنه في المستقبل القريب.
الاستخدامات المحتملة لهذه المادة ليست محصورة في البناء فحسب، بل تمتد إلى مجالات تقنية حساسة، مثل تصنيع الألواح الشمسية وتحسين كفاءتها. فالخشب الشفاف يسمح بمرور الضوء بطريقة يمكن التحكم فيها، ومع قدرته على تخزين الحرارة، قد يفتح الباب أمام أنظمة طاقة شمسية تعتمد على سطح خشبي شفاف بدلًا من الطبقات الزجاجية الكلاسيكية. والجملة التي قد تلخص طموح هذا الابتكار هي: «يمكن لهذا الابتكار أن يُحدث ثورة في العمارة الخضراء»، وهي عبارة تعكس حجم التغيير الذي قد تسبّبه هذه المادة في تصميم المباني وفي توجهات الدول نحو مواد أكثر استدامة وأقل ضررًا على البيئة. ومن الاستخدامات المستقبلية المتوقعة أيضًا تطوير أسقف شفافة تمنح ضوءًا ناعمًا داخل المنازل دون الحاجة إلى فتح مساحات زجاجية كبيرة، وهو ما يجعل التصميم الداخلي أكثر مرونة وسلاسة. بل إن بعض الباحثين يتوقعون إمكانية دمج هذه المادة في تصميم واجهات ذكية يمكنها التفاعل مع أشعة الشمس وتعديل مستوى الإضاءة تلقائيًا، مما يخلق بيئة سكنية توفر الطاقة دون التضحية بالراحة أو الشكل الجمالي.
وعندما ننظر إلى المستقبل من زاوية أكثر جرأة، قد نجد أن الأثر الحقيقي لهذا النوع من الخشب يتجاوز التصميم المعماري، ليصل إلى الصناعات التي تعتمد على المواد الخفيفة والقوية في آن واحد، مثل صناعة الطائرات الخفيفة، أو تجهيزات الفضاء، أو حتى معدات الألعاب الإلكترونية التي تحتاج إلى مواد قوية لكنها لا تضيف وزنًا زائدًا على التصميم. في السنوات الأخيرة رأينا كيف تطورت تقنيات تصنيع أجهزة الألعاب، من PlayStation إلى Nintendo Switch، وكيف تعتمد هذه الأجهزة على خامات مدروسة بعناية لضمان المتانة وخفة الوزن وتوزيع الحرارة. وربما نرى في المستقبل لوحات دوائر أو أغلفة خارجية شفافة تعتمد على هذه المادة، خصوصًا مع اهتمام الشركات الكبرى بمواد قابلة لإعادة التدوير ومتوافقة مع المعايير البيئية الجديدة. وإذا وصل الخشب الشفاف إلى مرحلة الإنتاج التجاري الواسع، فإن تأثيره على السوق قد يكون شبيهًا بدخول البلاستيك المتين في منتصف القرن الماضي، عندما غيّر شكل المنتجات التي نستخدمها يوميًا، من الأجهزة الإلكترونية إلى قطع السيارات وحتى الأدوات المنزلية.
وفي النهاية، ما يقدّمه هذا الابتكار هو دليل على أن المواد التقليدية يمكن إعادة تصورها بالكامل عندما يتدخل العلم بروح جريئة وبفلسفة تبحث عن حلول مستدامة للمستقبل. فكرة أن مباني الغد قد تُشيّد من خشب شفاف يبدو للوهلة الأولى شيئًا قريبًا من الخيال العلمي، لكن الدراسات الحديثة وتطور البنية التحتية الصناعية قد تجعل هذا الخيال واقعًا قابلاً للتنفيذ. وإذا تطورت هذه المادة لتأخذ خصائص جديدة تضاهي المعادن القوية كالحديد والفولاذ، فقد نصل حقًا إلى مرحلة تصبح فيها الهياكل الأساسية للمباني مزيجًا من الشفافية والقوة، مع بصمة بيئية أقل بكثير مما نراه اليوم. ومع توسع النقاش العالمي حول الاستدامة وتصميم المدن الذكية، تبدو هذه الخطوة من KTH واحدة من المحاور المهمة التي قد تساهم في تغيير مسار الصناعة نحو بدائل أقل ضررًا وأكثر انسجامًا مع البيئة. وربما خلال بضع سنوات فقط، سنرى هذا الخشب الشفاف يستحوذ على اهتمام شركات البناء والتقنية، تمامًا كما فعلت مواد أخرى مثل Graphene عندما شقت طريقها من المختبر إلى المنتجات الفعلية. ورغم أن الطريق ما يزال طويلًا قبل أن يصبح الخشب الشفاف خيارًا أساسيًا في كل منزل أو مبنى، إلا أن التقدم العلمي الحالي يشير بوضوح إلى أن المستقبل قد يحمل الكثير من المفاجآت في عالم المواد المتقدمة.