في إنجاز علمي غير مسبوق يمزج بين فيزياء الجسيمات الدقيقة وعلوم الأعصاب، أعلن فريق مشترك من Utrecht University الهولندية وSogang University الكورية عن تطوير نموذج أولي لمشبك عصبي اصطناعي يُحاكي وظائف الدماغ البشري باستخدام مادتين بسيطتين للغاية: الماء والملح.
هذا الاكتشاف المذهل، الذي نُشر تحت عنوان “Brain-inspired computing with fluidic iontronic nanochannels” في مجلة PNAS العلمية عام 2024، قد يفتح الباب على مصراعيه أمام حقبة جديدة من الحوسبة البيولوجية، حيث لا تقتصر الآلات على محاكاة عمليات التفكير فحسب، بل تمتلك نفس البنية الفيزيائية شبه الحية التي تجعل التفكير ممكنًا.
الجهاز الذي طوره الباحثون يحمل اسم Iontronic Memristor، وهو نوع من المشابك العصبية الاصطناعية يستلهم آلية عمله من “اللدونة المشبكية” (Synaptic Plasticity) الموجودة في الدماغ البشري. تم تصنيع هذا الجهاز باستخدام قناة مخروطية لا يتجاوز قطرها بضعة ميكرومترات، تمر من خلالها إشارات كهربائية تعمل على دفع الأيونات داخل محلول ملحي، مما ينتج عنه استجابة كهربائية قادرة على “تذكّر” الإشارات السابقة.
هذه الخاصية تُعتبر الأساس في قدرة الدماغ البشري على التعلم والتكيف مع التجارب، وهي ما يحاول العلماء تقليده منذ عقود دون نجاح كبير، بسبب صعوبة محاكاة النمط التفاعلي غير الخطي للأيونات داخل الخلايا العصبية. استخدام الماء والملح هنا لا يحمل فقط دلالة رمزية، بل هو تجسيد حقيقي للطريقة التي يعمل بها الدماغ، ويمثّل انتقالاً من الحوسبة الجامدة إلى حوسبة مرنة وسائلة تشبه الحياة نفسها.
رغم التقدم الهائل في تقنيات الذكاء الاصطناعي المعتمدة على المعالجات الرسومية (GPUs) أو المعالجات العصبية (Neural Processing Units – NPUs)، إلا أن هذه الأنظمة تظل محدودة بسبب استهلاكها العالي للطاقة واعتمادها على نظم خطية لا تتكيف ديناميكيًا كما يفعل الدماغ.
الميمريستور الأيوني الذي طوره هذا الفريق يقدم بديلًا جديدًا، يمكن أن يصبح نواة للجيل القادم من المعالجات المستوحاة من الدماغ، والمعروفة باسم Neuromorphic Computing. هذه الأنظمة قادرة على التعامل مع المعلومات بطريقة لامركزية، حيث تُخزّن البيانات في نفس الوحدات التي تُعالجها، تمامًا كما يفعل الدماغ.
من أبرز مزايا النموذج المطوّر أنه يعتمد على مواد منخفضة التكلفة (الماء والملح)، بالإضافة إلى بساطة تصنيعه، ومرونة توسيعه. على عكس الأنظمة المعقدة المعتمدة على السيليكون والمواد الصلبة النادرة، يمكن بناء ملايين من هذه المشابك الأيونية في مساحة صغيرة، ما يوفّر قدرة حوسبية هائلة بأقل استهلاك للطاقة.
هذا قد يؤدي إلى تطوير أجهزة ذات قدرات ذكاء اصطناعي خارقة لا تحتاج إلى مراكز بيانات ضخمة أو طاقة كهربائية هائلة. كما يمكن أن تُستخدم هذه التقنية في ألعاب الفيديو، وأجهزة الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR)، وفي تطوير ذكاء اصطناعي يستجيب للّاعب بسرعة وذكاء على نحو غير مسبوق.
التطبيقات المستقبلية: من التعليم إلى الطب
لا تقتصر إمكانيات هذه التقنية على مجال الألعاب أو الحوسبة، بل تشمل مجالات مثل الطب العصبي، حيث يمكن استخدامها في تطوير واجهات دماغ-آلة (Brain-Machine Interfaces) أكثر دقة وفعالية. كما قد تمهد الطريق أمام تطوير روبوتات عصبية تتفاعل مع العالم بنفس الطريقة التي يتفاعل بها الإنسان.
وفي مجال التعليم، قد يتم تطوير أنظمة تعليم ذكية تتعلم ذاتيًا وتتكيف مع أنماط التفكير المختلفة للطلاب، ما يُحدث ثورة حقيقية في طرق التعلم والتدريب المهني.