في خطوة لافتة أعادت النقاش حول علاقة شركات الألعاب الكبرى بتقنيات الذكاء الاصطناعي، أصدرت شركة Nintendo بيانًا رسميًا عبر حسابها الموثق المخصص للعلاقات العامة والاتصالات المؤسسية، نفت فيه بشكل قاطع قيامها بأي تواصل أو ضغط على الحكومة اليابانية فيما يتعلق بتقنيات “الذكاء الاصطناعي التوليدي” أو ما يُعرف بـ “Generative AI”. هذا النفي جاء ردًا على شائعات انتشرت مؤخرًا على وسائل التواصل الاجتماعي، زعمت أن Nintendo تضغط على السلطات اليابانية لاتخاذ موقف أكثر صرامة ضد استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي التي قد تتسبب في انتهاك حقوق النشر الخاصة بها أو بغيرها من الشركات.
وأكدت Nintendo في بيانها أن “لا أساس من الصحة لما يُتداول حول قيام الشركة بأي تحركات أو اتصالات رسمية مع الحكومة بخصوص الذكاء الاصطناعي التوليدي”، موضحة أن ما يجري تداوله في بعض الأوساط الرقمية لا يتعدى كونه إشاعات ناتجة عن سوء فهم أو عن خلط بين مواقف شركات مختلفة من هذه التقنية. هذا البيان يأتي في وقت حساس تشهد فيه صناعة التكنولوجيا والإبداع تداخلاً متزايدًا بين قدرات الذكاء الاصطناعي وحقوق الملكية الفكرية، خاصة بعد التطورات المذهلة التي حققتها أدوات مثل “Sora 2” من شركة OpenAI، والتي أظهرت مستوى من الدقة في توليد الفيديوهات يكاد يصعب التفرقة بينه وبين الأعمال الحقيقية.
وقد تصاعدت المخاوف عالميًا منذ أن أعلنت OpenAI عن النسخة الثانية من نظام توليد الفيديوهات الخاص بها، “Sora 2”، لما تملكه هذه الأداة من قدرة على إعادة إنتاج مشاهد وأعمال فنية بدقة شبه مطلقة، تشمل الأسلوب البصري والمؤثرات الصوتية وحتى الإضاءة والتفاصيل الدقيقة. هذا التطور جعل الكثير من صُنّاع المحتوى والفنانين، فضلًا عن شركات الألعاب الكبرى، يعربون عن قلقهم من احتمال استخدام الذكاء الاصطناعي في نسخ أعمالهم أو استغلال شخصياتهم وبيئات ألعابهم دون إذن.
في هذا السياق، تداولت بعض المنتديات اليابانية ومواقع التواصل أخبارًا غير دقيقة نسبت إلى Nintendo نيتها رفع مذكرة رسمية إلى الحكومة تطالب فيها بوضع ضوابط قانونية أكثر صرامة على تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وهو ما نفته الشركة بشكل قاطع. وأوضحت في بيانها أنها “لم تقدم أي طلبات أو اقتراحات للحكومة بهذا الشأن”، مؤكدة أن تعاملها مع هذه المسائل يتم في إطار سياساتها الداخلية التي تركز على حماية الملكية الفكرية لجميع منتجاتها وعلاماتها التجارية.
من الجدير بالذكر أن Nintendo لطالما كانت من أكثر الشركات حرصًا على حماية ملكيتها الفكرية في عالم ألعاب الفيديو. ومنذ تأسيسها وهي تتبنى سياسة صارمة تجاه أي استخدام غير مصرح به لعلاماتها وشخصياتها، سواء تعلق الأمر بمحتوى من المعجبين أو بمشاريع تعتمد على محاكيات الألعاب. هذا التاريخ يجعل ردّها الأخير منطقيًا ومتوقعًا، خاصة في ظل تنامي النقاشات العالمية حول مدى قانونية البيانات التي يتم تغذية نماذج الذكاء الاصطناعي بها.
فمن الناحية القانونية، لا تزال أغلب التشريعات في العالم عاجزة عن مواكبة التطور السريع للذكاء الاصطناعي، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بحقوق الصور، الأصوات، النصوص، والمشاهد الفنية التي تولدها الخوارزميات. وهنا يأتي موقف Nintendo ليعكس رؤية واضحة: فهي لا ترفض التقنية ذاتها، لكنها ترفض أي استخدام ينتهك حقوقها أو يتعدى على ممتلكاتها الفكرية.
البيان الصادر عن الشركة تضمّن فقرة لافتة جاءت بصيغة دقيقة ومباشرة:
“سواء استخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي أم لا، فإننا سنتخذ الإجراءات المناسبة ضد أي انتهاك لحقوق الملكية الفكرية الخاصة بشركتنا.”
هذه الجملة القصيرة تحمل بين طيّاتها فلسفة Nintendo التي لطالما اعتمدت على التوازن بين الابتكار والحماية. فهي تعترف بوجود الذكاء الاصطناعي كأداة جديدة في عالم الإبداع الرقمي، لكنها تذكّر الجميع بأن الإبداع لا يعني الفوضى، وأن لكل فكرة أو تصميم أو شخصية جذورًا يجب احترامها.
اللافت أن هذا البيان لم يأتِ بمعزل عن التطورات الأخيرة في الصناعة، بل جاء بعد سلسلة من المواقف المماثلة التي اتخذتها شركات ترفيه عالمية تجاه الذكاء الاصطناعي. فمثلًا، أبدت بعض شركات الإنتاج الهوليوودية مخاوف من إمكانية استبدال الممثلين بتقنيات توليد الفيديوهات، فيما دخلت شركات كبرى مثل Sony وDisney في نقاشات داخلية حول كيفية التعامل مع هذه الموجة الجديدة من التكنولوجيا دون أن تضر بحقوق المبدعين.
Nintendo، من جهتها، تبدو أكثر واقعية في رؤيتها؛ فهي لا تهاجم التقنية، لكنها تضع خطًا أحمر واضحًا: لا مساس بعوالم Mario وZelda وPokémon ولا بأي من أيقوناتها التي أصبحت رموزًا ثقافية عالمية. بالنسبة للشركة، كل شخصية من شخصياتها تمثل جزءًا من تاريخ ترفيهي متجذّر لا يمكن السماح بتقليده أو إعادة توليده بوسائل اصطناعية.
https://x.com/NintendoCoLtd/status/1974716193526390785?ref_src=twsrc%5Etfw%7Ctwcamp%5Etweetembed%7Ctwterm%5E1974716193526390785%7Ctwgr%5E3fdc3be7a02b115e3c1d332cd6942033ba26128f%7Ctwcon%5Es1_&ref_url=https%3A%2F%2Fwww.famitsu.com%2Farticle%2F202510%2F54512
من جهة أخرى، فإن موقف Nintendo يُعد أيضًا امتدادًا لطبيعتها المحافظة التي تميّزت بها دائمًا مقارنة ببعض منافسيها مثل Sony وMicrosoft. فبينما تتجه شركات أخرى لتجربة الذكاء الاصطناعي في عمليات تطوير الألعاب أو تحسين الرسومات والمؤثرات، تفضل Nintendo السير بخطى ثابتة وحذرة، مفضّلة الجودة على السباق التكنولوجي. هذا النهج نفسه انعكس في تعاملها مع الواقع الافتراضي وتقنيات السحاب، حيث كانت الشركة آخر من تبنّى هذه الاتجاهات، لكنها حين تدخل ميدانًا جديدًا تفعل ذلك وفق معاييرها الخاصة التي تضمن هوية منتجاتها الأصلية.
وفي هذا الإطار، يرى بعض المحللين أن رفض Nintendo الدخول في خضم سباق الذكاء الاصطناعي حاليًا قد يكون خطوة تكتيكية ذكية. فالتكنولوجيا لا تزال في مرحلة ضبابية من حيث التشريعات، وأي اندفاع غير محسوب قد يعرّض الشركات لمشكلات قانونية أو جدل أخلاقي لا نهاية له. وبالنظر إلى سُمعة Nintendo كإحدى أكثر الشركات احترامًا للملكية الفكرية، فإن تبنيها موقفًا حذرًا يمنحها الأفضلية في الحفاظ على صورتها أمام الجمهور والمستثمرين.
لكن لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي أصبح اليوم جزءًا لا يتجزأ من مستقبل صناعة الألعاب. فشركات تطوير كثيرة باتت تعتمد عليه لتسريع عمليات الإنتاج وتحسين سلوك الشخصيات الافتراضية وتحليل بيانات اللاعبين. وحتى داخل اليابان، هناك شركات مثل Square Enix وCapcom بدأت بالفعل في استكشاف سبل دمج هذه التقنيات ضمن أدواتها الداخلية. لذلك، من الصعب تخيّل أن Nintendo ستظل بعيدة عن هذا المجال إلى الأبد. الأرجح أنها تراقب عن كثب، وتخطط لدخول مدروس في اللحظة المناسبة، على طريقتها الخاصة.
البيئة الرقمية اليوم مختلفة جذريًا عمّا كانت عليه قبل عشر سنوات. فمع توسّع نطاق الذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبح بالإمكان إنشاء محتوى معقّد بكبسة زر، من موسيقى وصور وحتى مشاهد سينمائية كاملة. هذا التحول يجعل من الطبيعي أن تبدي شركات بحجم Nintendo قلقها على ملكيتها الفكرية، ليس فقط لأنها تمتلك شخصيات شهيرة، بل لأنها بنت إرثًا ثقافيًا عالميًا على مدار أكثر من أربعين عامًا.
فمن Mario إلى Link ومن Pikachu إلى Samus Aran، ليست هذه مجرد شخصيات ألعاب، بل رموز ثقافية تُدرّس في كليات التصميم وتُستخدم في الأبحاث الأكاديمية حول الهوية البصرية في الترفيه. ولذلك، عندما تقول Nintendo إنها ستحمي ملكيتها الفكرية “بصرف النظر عن استخدام الذكاء الاصطناعي من عدمه”، فإنها لا تصدر مجرد بيان قانوني، بل تعلن مبدأً وجوديًا بالنسبة لها.
ومن الجدير بالذكر أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والملكية الفكرية أصبحت من أكثر القضايا تعقيدًا في عالم التقنية اليوم. فالمبدعون يتساءلون: هل يُعتبر المحتوى الذي يولّده الذكاء الاصطناعي عملاً أصليًا؟ ومن يمتلك حقوقه؟ هل المطور الذي كتب الكود؟ أم المستخدم الذي طلب النتيجة؟ أم ربما الشركة التي درّبت النموذج؟ هذه الأسئلة ما زالت عالقة، وتزداد تشابكًا كلما تحسّنت قدرات الذكاء الاصطناعي على تقليد الأنماط البشرية والإبداعية.
في اليابان، التي تُعد موطنًا لكثير من شركات الألعاب والأنيمي، بدأت الحكومة مؤخرًا في دراسة إطار قانوني جديد يوازن بين دعم الابتكار وحماية المبدعين. وهنا يُرجّح أن البيان الأخير من Nintendo قد ساهم بطريقة غير مباشرة في توجيه الانتباه إلى هذه القضية على المستوى الوطني، حتى لو لم يكن هناك أي تواصل رسمي كما أوضحت الشركة.
ومع أن Nintendo نفت تمامًا أي تدخل مباشر مع الحكومة، إلا أن تأثيرها في السوق اليابانية يجعل من تصريحاتها بمثابة رسالة ضمنية لكل العاملين في المجال: لا تستخدموا شخصياتنا أو عوالم ألعابنا في مشاريع الذكاء الاصطناعي دون إذن مسبق. هذه الرسالة وحدها كافية لإعادة صياغة الطريقة التي ينظر بها المطورون الصغار والهاوون إلى العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والإبداع التجاري.
في النهاية، يبدو أن موقف Nintendo لا يهدف إلى مقاومة الذكاء الاصطناعي بقدر ما يسعى إلى ضبطه ضمن حدود القانون والأخلاق المهنية. فهي شركة بنت مجدها على الابتكار، لكنها تدرك أن الابتكار الحقيقي لا يكون بنسخ ما أنجزه الآخرون. ومهما بلغت قوة الخوارزميات، فلن تتمكن من استبدال روح الإبداع البشري التي ميّزت Nintendo منذ نشأتها.
ربما تلخّص فلسفتها في هذه المسألة جملة قالها أحد مطوريها القدامى: “التقنية لا تهم، المهم هو الفكرة التي تجعل اللاعب يبتسم.” فبينما يتسابق العالم نحو المحتوى الاصطناعي، تذكّرنا Nintendo بأن السحر الحقيقي في الألعاب لا يأتي من الأكواد، بل من القلوب التي تصنعها.