أُعلن رسميًا عن انتهاء إجراءات إفلاس Studio Gainax، ليُسدل الستار على واحد من أكثر الاستوديوهات تأثيرًا وإثارة للجدل في تاريخ الأنمي الياباني، بعد مسيرة امتدت لأكثر من أربعين عامًا تركت خلالها بصمة لا يمكن محوها في ذاكرة الصناعة وجمهورها حول العالم. الخبر لم يكن مجرد إعلان إداري بارد، بل لحظة مشحونة بالمشاعر لعشاق الأنمي، خصوصًا أولئك الذين كبروا وهم يشاهدون أعمال الاستوديو على شاشات التلفزيون، أو اكتشفوا عالمه المختلف في فترات مبكرة من شغفهم بثقافة الأنمي. Gainax لم يكن مجرد اسم في شارة البداية، بل كان فكرة، وروحًا متمردة، وطريقة تفكير كسرت القوالب المعتادة ودفعت الخيال إلى مناطق لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منها.
منذ تأسيسه في الثمانينيات، صنع Studio Gainax لنفسه هوية فريدة قائمة على الجرأة والتجريب وعدم الخضوع لتوقعات السوق. أعمال مثل Neon Genesis Evangelion لم تكن مجرد مسلسل أنمي ناجح، بل ظاهرة ثقافية كاملة أعادت تعريف ما يمكن أن يكون عليه الأنمي من حيث العمق النفسي، والرمزية، والطرح الفلسفي. المسلسل لم يكتفِ بتقديم معارك mecha تقليدية، بل غاص في أعماق النفس البشرية، في القلق، والوحدة، والخوف من التواصل، وهي عناصر جعلت العمل خالدًا حتى اليوم. إلى جانبه، جاءت أعمال مثل His and Her Circumstances التي بدت للوهلة الأولى كقصة رومانسية مدرسية بسيطة، لكنها سرعان ما كشفت عن أسلوب إخراجي مختلف ولغة سرد غير مألوفة، تعكس توقيع Gainax الواضح في كسر التوقعات.
القائمة التي تركها الاستوديو خلفه ليست قصيرة ولا عابرة. FLCL مثلًا كان تجربة سريالية جامحة، أقرب إلى انفجار فني لا يخضع لأي منطق تقليدي، لكنه في الوقت نفسه عبّر عن مرحلة المراهقة والارتباك والنمو بطريقة لا تزال تُدرّس حتى اليوم. Gurren Lagann جاء لاحقًا ليؤكد أن روح Gainax ما زالت حية، عمل مفعم بالحماس والطاقة والشعارات الكبيرة عن الإرادة الإنسانية وتجاوز المستحيل، بأسلوب بصري صاخب لا ينسى. ولا يمكن تجاهل GunBuster و Nadia: The Secret of Blue Water أو المعروفة في العالم العربي باسم “الماسة الزرقاء” وRoyal Space Force، وهي أعمال أسست لجرأة الاستوديو مبكرًا وأظهرت شغفه بالخيال العلمي والمغامرة والأسئلة الكبرى عن الإنسان ومكانه في الكون.
ما يجعل خبر الإفلاس مؤلمًا ليس فقط نهاية شركة، بل نهاية مدرسة كاملة في التفكير الإبداعي. Gainax كان استوديو يغامر حتى عندما تكون المغامرة مكلفة، ويمنح المخرجين والفنانين مساحة للتعبير الحر، أحيانًا على حساب الاستقرار المالي. ومع مرور السنوات، واجه الاستوديو مشاكل إدارية ومالية متراكمة، وتسربًا للمواهب التي أسست لاحقًا استوديوهات أخرى وواصلت التأثير بروح Gainax نفسها، لكن الاسم الأصلي ظل حاضرًا في الذاكرة كرمز للمرحلة الذهبية التي لا تتكرر بسهولة. كثيرون يرون أن ما نراه اليوم من أنمي جريء ومختلف يدين بالكثير لتلك التجارب الأولى التي خاضها الاستوديو دون خوف.
بالنسبة للجمهور العربي، يحمل اسم Gainax مكانة خاصة لا يمكن إنكارها. العديد من أعماله، أو الأعمال المتأثرة به، عُرضت على شاشات التلفزيون خلال فترات كان فيها الأنمي نافذة خيال نادرة لجيل كامل من المشاهدين. ذكريات المتابعة على القنوات المفتوحة، والنقاشات الطويلة بين الأصدقاء حول نهايات غامضة أو شخصيات معقدة، كلها مرتبطة بشكل أو بآخر بذلك الإرث. لذلك، فإن نهاية الاستوديو لا تعني اختفاء تأثيره، بل تؤكد أنه ترك ما هو أعمق من مجرد إنتاجات، ترك طريقة تفكير وإلهام سيظل حاضرًا في كل عمل يحاول كسر القواعد وإعادة تعريف الخيال.
في النهاية، قد تُغلق الملفات القانونية ويُطوى اسم الشركة من السجلات الرسمية، لكن Gainax سيبقى حيًا في ذاكرة الصناعة وجمهورها. من Evangelion إلى FLCL وGurren Lagann، ظل الاستوديو مثالًا على أن الإبداع الحقيقي لا يولد من الراحة، بل من الجرأة والمخاطرة والرغبة في قول شيء مختلف. أربعة عقود صنعت عوالم لا تُنسى، وتركت أثرًا واضحًا على جيل كامل من الحالمين وصناع الأنمي اليوم. ربما انتهى الاستوديو ككيان، لكن إرثه سيواصل العيش في كل مشهد يلهم، وكل قصة تجرؤ على أن تكون مختلفة.