لم تكن بداية Pikmin مجرّد فكرة عابرة في ذهن مبدع ياباني جلس أمام مكتبه ذات يوم، بل كانت شرارة نابعة من تفاصيل صغيرة جدًا في الحياة اليومية لشخص اسمه Shigeru Miyamoto الرجل الذي أعاد تعريف مفهوم “اللعب” مرات عديدة في تاريخ Nintendo. كانت الفكرة في البداية بسيطة إلى حد السخرية: كيف يمكن تحويل مهمة مملة مثل تنظيف الغرفة إلى تجربة ممتعة وملهمة في عالم الألعاب؟ لكن تلك الفكرة الطفولية، التي وُلدت من ملاحظة أب لطفله، تحوّلت لاحقًا إلى واحدة من أكثر السلاسل غرابة وجمالًا في تاريخ الشركة: Pikmin.
في مقابلة نادرة مع مجلة Famitsu، قال Miyamoto بابتسامة خجولة تحمل مزيجًا من الدعابة والصدق:
“كان ابني لا ينظف غرفته أبدًا، وكنت أتمنى لو أستطيع أن أجعله يفعل ذلك دون تذمر. من هنا جاءت فكرة أن آمر كائنات صغيرة بتنفيذ الأوامر لي.”
لكن Miyamoto أضاف في نفس المقابلة جملة لاذعة لا تُنسى:
“في كثير من النواحي، أعتقد أنني أحب Pikmin أكثر من ابني نفسه.”
قد تبدو الجملة طريفة أو حتى مبالغًا فيها، لكنها تختصر علاقة الرجل بالفن الذي يصنعه. بالنسبة له، ألعاب الفيديو ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل وسيلة للتعبير عن فلسفة الحياة، عن النظام في الفوضى، عن التعاون، عن فكرة أن حتى أصغر الكائنات يمكن أن تُحدث فرقًا كبيرًا.
من هنا بدأ كل شيء.
في أواخر التسعينات، كانت Nintendo تمرّ بمرحلة انتقالية. جهاز Nintendo 64 كان قد قدّم للعالم Super Mario 64 و The Legend of Zelda: Ocarina of Time، وهما لعبتان غيرتا مفاهيم التصميم ثلاثي الأبعاد. لكن Miyamoto، الذي كان حينها في أوج مجده كمصمم، شعر بالقلق. كان العالم التقني يتحرك بسرعة، والشركة بحاجة إلى تجربة شيء جديد يختبر حدود الخيال. وهكذا بدأت فكرة مشروع سري داخل Nintendo EAD عُرف لاحقًا باسم “Adam and Eve”، قبل أن يتطور تدريجيًا إلى ما نعرفه اليوم باسم Pikmin.
https://x.com/UltimaShadowX/status/1976010055918158047
المشروع انطلق باستخدام محرك Super Mario 128، وهو عرض تجريبي مذهل قدّمته Nintendo في مؤتمر Space World 2000. في العرض، شاهد الجمهور 128 نسخة من Mario تتحرك في انسجام تام على شاشة واحدة — عرض تقني كان هدفه إظهار قدرة GameCube على معالجة كائنات متعددة في وقت واحد دون أن تتأثر الأداءات. لكن بالنسبة لمياamoto، لم يكن العرض مجرد استعراض لقدرة الجهاز، بل إثباتًا لإمكانية بناء لعبة كاملة حول فكرة “إدارة مجموعة من الكائنات الصغيرة تعمل كفريق”.
وهكذا، وُلدت Pikmin رسميًا سنة 2001 على Nintendo GameCube. اللعبة لم تكن تشبه أي شيء آخر في السوق وقتها. أنت لا تلعب بشخص خارق، ولا تملك أسلحة مدمّرة، ولا تواجه جيوشًا من الأعداء. بدلاً من ذلك، تتحكم بكائن صغير اسمه Captain Olimar، الذي يجد نفسه عالقًا على كوكب غريب بعد تحطم مركبته الفضائية. وللبقاء على قيد الحياة، عليه التعاون مع مخلوقات صغيرة تدعى Pikmin — كائنات نصف نباتية نصف حيوانية، مختلفة الألوان، لكل نوع منها قدرة فريدة تساعدك على تجاوز العقبات وجمع القطع اللازمة لإصلاح السفينة.
اللاعب يجد نفسه فجأة في تجربة أقرب إلى لعبة استراتيجية حية، لكنها مفعمة بالعاطفة. فـPikmin ليست مجرد “أتباع”، بل مخلوقات تشعر وكأنها كائنات حقيقية، تفرح عندما تنجح، وتصرخ بخوف حين تموت، وتترك أثرًا مؤلمًا في قلب اللاعب عندما يُفقد أحدها في المعركة. تلك اللمسة الإنسانية جعلت اللعبة مختلفة. لم تعد عن السيطرة أو القوة، بل عن القيادة والتعاون والرحمة.
ورغم أن مبيعات Pikmin الأولى لم تكن ضخمة مثل ألعاب Mario أو Zelda، فإن تأثيرها الإبداعي كان هائلًا داخل Nintendo. لقد أعادت تعريف ما يمكن أن تكون عليه ألعاب الشركة في عصر ما بعد GameCube.
بعد عامين فقط، أطلقت Nintendo الجزء الثاني Pikmin 2 سنة 2004. هنا توسّعت الرؤية: لم يعد Olimar وحده، بل انضم إليه زميله Louie، وازدادت أنواع Pikmin، وظهرت فكرة الاستكشاف العميق تحت الأرض. كان الهدف أن تكون اللعبة أقل تقييدًا وأكثر غنى بالاستراتيجيات، فبدلاً من سباق الزمن في الجزء الأول، أصبحت مغامرة أكثر راحة وغنى بالمكافآت.
أما الجزء الثالث، الذي صدر لاحقًا على Wii U سنة 2013، فقد استغل الإمكانيات التقنية الجديدة للجهاز، خصوصًا في التحكم عبر الشاشة الثانية، ليمنح اللاعب تجربة أكثر سلاسة وتنظيمًا. لكن رغم جماله، عانى Pikmin 3 من ضعف مبيعات Wii U العام، مما جعل اللعبة تظل جوهرة خفية أكثر مما كانت نجاحًا تجاريًا.
ثم جاء Pikmin 4، الحلم الذي انتظره عشاق السلسلة لأكثر من عقد. Miyamoto كان قد صرّح في إحدى مقابلاته القديمة أنه “تم الانتهاء من Pikmin 4 بنسبة 90%” قبل سنوات من صدورها، مما جعلها واحدة من أكثر المشاريع الغامضة في تاريخ Nintendo. وعندما أُطلقت أخيرًا في صيف 2023 على Nintendo Switch، شعر اللاعبون أن الانتظار كان يستحق. اللعبة حافظت على روح السلسلة الأصلية لكنها أضافت عمقًا جديدًا من حيث التصميم الفني، الذكاء الاصطناعي، ونظام الرفيق الحيواني Oatchi الذي فتح أبعادًا جديدة في أسلوب اللعب.
في هذه المرحلة، أصبحت Pikmin أكثر من مجرد سلسلة صغيرة. تحولت إلى رمز لطريقة Nintendo في التفكير: الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة التي تصنع العظمة.
وربما هذا هو جوهر عبقرية Miyamoto.
فبينما كانت معظم الشركات تتسابق نحو الواقعية والرسوم المبهرة، كان هو يتأمل زهرة تنبت في فناء منزله، أو نملة تحمل ورقة أكبر من حجمها عشر مرات، ويقول في نفسه: “هنا تكمن اللعبة القادمة.”
تلك النظرة البسيطة للعالم هي ما جعلت Nintendo مختلفة دائمًا. Pikmin ليست عن الغزو أو القوة، بل عن التعاون بين الضعفاء لتحقيق هدف مشترك. إنها دعوة للتأمل في الطبيعة، في الوقت، وفي هشاشة الحياة نفسها.
قد يرى البعض أن القول “أحب Pikmin أكثر من ابني” مجرد مزاح، لكنه في الحقيقة يعكس ما يشعر به المبدع حين يسكب روحه في عمله. بالنسبة لـMiyamoto، الألعاب ليست منتجات، بل كائنات حية تولد وتكبر وتعيش مع الناس. Pikmin كانت طريقته لقول إن الفن يمكن أن يكون بسيطًا وجميلًا وصادقًا في آن واحد.
ورغم مرور أكثر من عقدين على ولادتها، ما زالت Pikmin تحتفظ بسحرها الخاص. في كل جزء جديد، هناك لمسة من الحنين، ومن الدعابة اليابانية البريئة، ومن الدهشة التي لا تملّها حتى بعد مئات الساعات. وربما هذا ما جعلها تستمر: لأنها لا تحاول أن تبهر، بل أن تذكّرك بطفولتك، بذلك الجزء منك الذي ما زال يندهش من نملة تحمل بذرة، أو زهرة تتفتح تحت المطر.
ولعلّ أجمل ما في القصة، أن Miyamoto نفسه لم يتغير كثيرًا. ما زال ذلك الرجل الذي يتجوّل في حديقة منزله الصغيرة في كيوتو، ينظر إلى الطبيعة، ويرى فيها ألعابًا تنتظر أن تُكتشف. وكأن الحياة بالنسبة له ليست إلا لعبة Pikmin كبيرة، نحن فيها المخلوقات الصغيرة، نتعاون ونكافح ونبحث عن طريقنا للعودة إلى بيوتنا.