شهد المشهد الرقمي في المغرب تطورا لافتا هذا اليوم، بعد الإعلان عن توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية جديدة تجمع وزارة الشباب والثقافة والتواصل بصندوق الإيداع والتدبير CDG وشركة CDG Invest، وذلك بهدف إطلاق برنامج يحمل اسم Gamification Lab. ورغم أن المبادرات الرسمية المرتبطة بالتقنيات الحديثة أصبحت تتكرر بوتيرة ملحوظة خلال السنوات الأخيرة، إلا أن هذه الخطوة تبدو مختلفة، لأنها تفتح للمغرب بابا على قطاع يتوسع عالميا بسرعة ويجذب اهتمام الشركات الكبرى، وهو قطاع توظيف آليات الألعاب الإلكترونية Gamification. هذه التكنولوجيا، التي يربطها البعض عادة بالألعاب الترفيهية فقط، أصبحت اليوم جزءا من الأدوات الحديثة التي تعتمد عليها القطاعات الأكثر تأثيرا في حياة الناس، سواء التعليم أو الصحة أو التكوين أو الثقافة وغير ذلك. ومن هنا تأتي أهمية إطلاق هذا المختبر الوطني، الذي يهدف إلى توجيه الكفاءات المغربية نحو صناعة محتوى رقمي جديد، مع خلق فرص عمل تلامس طبيعة هذا العصر الرقمي.
من بين الجوانب اللافتة في الاتفاقية أن الوزارة وشركاءها لم يركزوا فقط على هدف إطلاق برنامج جديد، بل وضعوا تصورا واضحا لإنشاء منصة وطنية موجهة لتسويق واقتناء حلول Gamification التي تطورها الشركات الناشئة المغربية. وهذا التفصيل ليس مجرد إضافة ثانوية، بل هو نقطة مركزية في المشروع. فمنذ سنوات، تعاني الشركات الرقمية الناشئة في المغرب من إشكالية الانتقال من مرحلة الفكرة إلى مرحلة التسويق والاختبار والتعاقد مع مؤسسات حكومية أو خاصة. وغالبا ما تنجح هذه الشركات في إنتاج نماذج أولية مبتكرة، لكنها تفقد الطريق عندما تصل إلى نقطة البحث عن زبائن أو مؤسسات تعتمد خدماتها. لذلك يمكن القول إن المنصة الجديدة ستكون جسرا بين الشركات الناشئة من جهة، ومؤسسات عمومية وخاصة تحتاج فعلا إلى حلول رقمية مبنية على اللعب التفاعلي من جهة أخرى. وهذا النوع من الربط بين السوق والابتكار هو ما ينقص منظومة التكنولوجيا في المغرب منذ مدة طويلة. إذ لا يكفي أن نمتلك شبابا موهوبا يعرف كيف يصنع، بل يجب أيضا أن نتيح له فضاء يقدّم فيه عمله ويصل به إلى مستفيد حقيقي.
وعند التعمق في تفاصيل المبادرة، يبدو واضحا أن الهدف يتجاوز مجرد رقمنة بعض الخدمات. هناك رغبة في خلق منظومة كاملة تحرك سوقا جديدا قائما على المحتوى الرقمي التفاعلي. فبرنامج Gamification Lab، كما جاء في تفاصيل الاتفاقية، يطمح إلى خلق فرص شغل مؤهلة في قطاع حساس ومتطور. وفي هذا الجانب تحديدا، تبدو الخطوة منطقية جدا. العالم اليوم يعيش طفرة رقمية تعتمد بشكل كبير على التفاعل، وعلى تصميم تجارب تجعل المستخدم جزءا من العملية وليس مجرد متلق سلبي. الشركات العالمية الكبرى بدأت تعتمد Gamification في منتجات التعليم الإلكتروني، وفي تدريب الموظفين، وحتى في الحلول الصحية المتعلقة بتنظيم السلوك والمساعدة على تحسين نمط الحياة. وإذا تمكن المغرب من بناء قدراته في هذا المجال مبكرا، فقد يجد لنفسه مكانا مهما في سوق ينافس فيها المطورون من آسيا وأوروبا وأمريكا. والأهم من ذلك أن هذه المبادرة تأتي في مرحلة بدأ فيها الشباب المغربي يُظهر اهتماما كبيرا بصناعة الألعاب الإلكترونية، سواء عبر التطوير أو الرسم أو كتابة السيناريو أو تصميم الميكانيكيات التي تمنح اللعبة روحها.
[/embedpress]
المثير في تفاصيل البرنامج أن عملية التفعيل لن تعتمد أسلوبا كلاسيكيا يعتمد على إطلاق مشروع وتركه مفتوحا دون متابعة. بل سيتم العمل بمقاربة تعتمد خطوات واضحة، تبدأ بدراسة دقيقة لاحتياجات الفاعلين في القطاعين العام والخاص. هذه الخطوة وحدها كفيلة بأن تنقذ البرنامج من التعثر، لأنها تضمن أن الحلول التي ستنتجها الشركات الناشئة لن تكون مجرد مشاريع جميلة على الورق، بل أدوات لها مستخدمون فعليون. ثم تأتي مرحلة توقيع اتفاقيات مع الجهات التي ترغب في الاستفادة من حلول Gamification الجديدة، وهي خطوة تجعل السوق جاهزا قبل حتى ظهور المنتج نفسه. وبعد ذلك سيتم إطلاق طلبات إبداء اهتمام لانتقاء الشركات الناشئة المناسبة، وهي مرحلة تحتاج الكثير من الحكمة لضمان اختيار مشاريع لديها فرصة حقيقية للنجاح. ولعل الجانب الأكثر أهمية هو المواكبة التي ستقدم لهذه الشركات، لأن التجارب السابقة علمتنا أن المواكبة الجيدة يمكن أن تحول مشروعا بسيطا إلى منتج قادر على النجاح داخل المغرب وخارجه.
هناك أيضا جانب آخر لا يجب أن يمر مرور الكرام، وهو الجانب المتعلق بدعم المواهب الوطنية وتشجيع إنتاج محتوى رقمي محلي. فمنذ سنوات، يطالب الكثير من المهتمين بصناعة الألعاب في المغرب بإعطاء مساحة أكبر للمحتوى المحلي، لأن صناعة الألعاب ليست مجرد كتابة كود أو بناء شخصيات ثلاثية الأبعاد، بل هي أيضا رواية قصص، ونقل ثقافات، وإبراز مراجع بصرية محلية. وإذا توفرت منصة مثل Gamification Lab لتمويل وتطوير هذه المواهب، فقد نرى خلال السنوات المقبلة ألعابا مغربية تستلهم تراث البلاد ولغاتها ولهجاتها، أو حلول تعليمية ذكية تعتمد أساليب اللعب وتستهدف الأطفال والشباب في المدارس. في هذا السياق يصبح المشروع أكبر بكثير من مجرد إعلان حكومي، بل خطوة نحو بناء صناعة رقمية لها خصوصيتها ومكانتها.
ومن أبرز العبارات التي تلخص روح المشروع ما ورد في تقديمه الأولي، حين قيل إن الابتكار الحقيقي لا يحتاج سوى إلى بيئة مواتية وفرصة حقيقية. ولهذا أدرجت هذه الجملة كاقتباس واحد في المقال لأنها تعبّر عن جوهر المبادرة: “الابتكار يولد حين يجد الموهوبون مساحة يختبرون فيها أفكارهم دون خوف من الفشل”. هذه الفلسفة، لو نجح البرنامج في تطبيقها فعلا، ستغير شكل سوق التكنولوجيا في المغرب. فكم من فكرة واعدة اختفت لأنها لم تجد منصة تجريب أو دعما بسيطا في الوقت المناسب. المبادرة الجديدة قد تكون الفرصة التي لطالما انتظرها عدد كبير من الشباب الذين يملكون مهارات تقنية لكنهم لا يجدون طريقا واضحا لإظهارها.
مع مرور الوقت، من المتوقع أن تصبح هذه المنصة نقطة التقاء بين المبرمجين، الرسامين، كتاب السيناريو، خبراء تجربة المستخدم، والمستفيدين من الحلول الرقمية. وهذا النوع من التجمعات المهنية ينتج عادة أفكارا جديدة لم يكن من الممكن تخيلها في البداية. تخيل مثلا أن يجتمع مطور ألعاب مع متخصص في الثقافة الرقمية مع مسؤول مؤسسة تعليمية، ثم ينطلق الثلاثة في بناء حل تعليمي يعتمد مقاييس اللعب لرفع مستوى التفاعل داخل الفصول الدراسية. هذه المشاريع قد تكون بسيطة في بدايتها، لكنها قادرة على خلق تأثير واسع في المجتمع. ومع الوقت، يمكن أن يتوسع المشروع ليشمل قطاعات أخرى، مثل السياحة التي تحتاج اليوم إلى وسائل مبتكرة لجذب الزوار وتعريفهم بالموروث المغربي، أو قطاع الصحة الذي يمكن أن يستفيد من حلول تعتمد أسلوب اللعب في برامج التأهيل وتحسين السلوك الصحي.
ومع أن نجاح البرنامج سيحتاج وقتا ومجهودا، إلا أن القاعدة الأولى التي ينطلق منها تبدو قوية. الشركاء الذين يقفون خلفه يمتلكون خبرة كبيرة في دعم المشاريع الاستثمارية، سواء على مستوى المواكبة أو على مستوى التمويل. وإذا تم احترام مراحل التنفيذ كما هي مخططة، فمن الممكن أن يتحول Gamification Lab إلى مركز وطني للابتكار في مجال الألعاب الإلكترونية، بل وربما منصة تصدّر محتوى رقميا مغربيا للعالم. وفي هذه المرحلة تحديدا، يحتاج المغرب إلى هذا النوع من المبادرات التي تفتح المجال أمام شباب يمتلكون الكفاءة لكنهم يحتاجون فقط إلى فرصة حقيقية لإثبات قدرتهم على المنافسة.