في قرية هادئة من ضواحي تايبيه، قضى المهندس والمُحِبّ للألعاب القديمة تشو وين تشيانغ (Cho Wen-Chiang) أكثر من خمس سنوات في مشروع فريد من نوعه: إعادة بناء جهاز Famicom الأصلي بشكل مدمج داخل شاشة CRT كاملة، ليظهر كمتحف صغير يعمل في غرفته الخاصة، لكن النتيجة كانت أكثر من ذلك بكثير؛ فقد تحولت إلى تحفة فنية نادرة تُذكّر بأنّ عشق الألعاب الكلاسيكية لا يئنّ أمام الزمن بل يتجدّد.
ولأن التشبّع بالإلكترونيات الحديثة أدى إلى تهميش الكثير من أجهزة الجيل القديم، قرر تشو أن يتحدّى هذا التراجع بأن يصنع وحدة تدعم اللعب الأصلي، وتحتفظ بنفس الهيكل الذي عرفه اللاعبون في الثمانينيات، لكن مع لمسات تقنية تجعلها تعمل بسلاسة مع شاشات وتلفزيونات اليوم. لم يكن هدفه إطلاق منتج تجاري أو جذب الانتباه، بل كان نزيف شغف يُفرغه في مشروع شخصي: “كنت أريد أن أحتفظ بذكريات الطفولة، لا أن أصنع لعبة جديدة فقط” كما يقول تشو بنبرة بسيطة، لكن حادّة في توقها.
بدأ المشروع عندما وجد تشو جهاز Famicom قديمًا في سوق مستعمل، وقد بدا له كقطعة أثرية تنبض بحكايات الساعات الطويلة التي قضاها اللاعبون أمام شاشة أبيض وأسود أو شاشة ملونة بسيطة. جلس إلى الجهاز وقام بتفكيك الهيكل والأجزاء الداخلية واحدة تلو الأخرى، محاولًا أن يفهم كيف تعمل تلك الدوائر والمكونات الصغرى. وخلال تلك العملية، اكتشف أنّ حفظ التجربة يحتاج أكثر من ترميم تقني؛ بل يحتاج إلى روح. لذا، صمم داخليًا لوحًا معدنيًا جديدًا للحافظة، وأعاد تصنيع الأزرار بتقنيات حديثة، ثم دمج شاشة CRT داخل الهيكل، ليس كشاشة مرفقة خارجيًا، بل كجزء لا ينفصل عن التجربة – وكأن لاعبًا عاد إلى غرفة طفولته، وما زال يجلس أمام نفس الجهاز، لكن بتقنيات أعينها اليوم.
![]()
النتيجة؟ جهاز يعمل تمامًا؛ تُدخَل فيه الأشرطة الأصلية، وتُغمَر فيه بالألوان والصوت والتوقيت القديم، لكنّ الشاشة مدمجة، الشكل عصري، الهيكل مضبوط بطريقة تجعل من اليد تجربة ملموسة وكأنك تشعر بثقل البلاستيك القديم وطاقة الدائرة. بالإضافة إلى ذلك، تعاون تشو مع مجتمع “Retro Gaming” في تايوان، وأحد أبرز المبدعين فيه أضاف شعارًا محفورًا على واجهة الجهاز كتوقيع رمزي: “عندما تفنى الأجهزة، تبقى الذكريات” – تلك العبارة التي دفعت المشروع لأن يتجاوز كونه ترميمًا بسيطًا، إلى كونه إعادة إحياء لحقبة كاملة.
![]()
ولأنّ الأصول مهمة في تقدير قيمة هذا النوع من المشاريع اليدوية، فقد صنع تشو أربع وحدات فقط من هذا النموذج — أربع تحف على مستوى العالم. كل وحدة تحمل رقمًا تسلسليًا محفورًا على المعدن، وتشير إلى أنها “1/4” أو “2/4” وما إلى ذلك. لذلك، فإن كل قطعة ليست مجرد جهاز، بل قطعة جمع نادرة، تروى قصة عزيمة وإتقان وإخلاص متجمد في بلاستيكٍ ولوحٍ معدنيٍ أصفر مطلي يدويًا. وعندما تتصفح صورًا لتلك الوحدات، تلاحظ أنَّ التفاصيل الصغيرة — مثل مفصلة الغطاء، والأشرطة القديمة، والألوان الدقيقة — مصممة بدقة تراثية، ما يجعلها أقرب إلى تحفة فنية أو متحف منزلي أكثر من كونها مجرد جهاز للعب.
إن هذا المشروع يمثّل جانبًا مهمًّا من ثقافة الألعاب الكلاسيكية: ليس مجرد تذكار، بل فعل إبداعي يعيد صياغة الماضي. ففي عصر أصبحت فيه الألعاب الحديثة تحمل رسومات سينمائية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، يتذكّر البعض أن ما جذبهم ذات يوم كان البساطة، التجربة الأولى، الارتباط بالزر والممثل والشاشة التي كانت تغلق تلقائيًا أحيانًا ولا تحفظ التقدم. تشو أراد أن يثبت أن تلك التجربة لا تزال جديرة بأن يُعَاد تجسيدها، لكن بطريقة تجعلها تتناغم مع الواقع المعاصر.
![]()
مع تقدّم المشروع، واجه عدة تحديات: أولها شكوى من الحرارة التي تولّدها شاشة CRT المدمجة في هيكل صغير، ثم مشاكل التوافق مع التلفزيونات الحديثة ذات المنافذ الرقمية، بالإضافة إلى اختيار المواد المناسبة للحفاظ على جمالية الثمانينيات — الزجاج الأمامي، البلاستيك الأصفر، الأزرار الحمراء، وعلامة Nintendo المنفذة بدقة. لكن تشو تحمّل تلك التحديات ونفّذها بعناية، يقول بابتسامة خفية: “لم أرد أن أصنع لعبة، أردت أن أصنع ذكرى”.
ولم يكتفِ بذلك، بل حرص على أن يكون المشروع مجتمعياً أيضًا: فقد فتح صفحة على منصة مشاركة صور Retro Gaming، وشارك تفاصيل عملياته خطوة بخطوة، من رسم المخططات إلى اختيار المقاومات، إلى اللحظة التي أوقف فيها المحرك وأغلق الجهاز بعد اختباره، ليسلم إلى أحد أصدقائه المقربين الذي استلم الوحدة الأولى. ومع الوقت، بدأ بعض هواة الألعاب الكلاسيكية من اليابان وأوروبا يتواصلون معه، يطلبون نسخة من التوقيع أو نصيحة لإعادة ترميم أجهزتهم الخاصة.
ويكتسب المشروع رمزية إضافية عندما ندرك أن جهاز Famicom الأصلي، الذي ظهر عام 1983 في اليابان تحت اسم Nintendo Family Computer، وكان نقطة انطلاق لحقبة الألعاب المنزلية الحديثة، لا يزال يلهم اليوم هذه المشاريع اليدوية. ومن خلال هذا العمل، تمتلئ الذاكرة بأنه لم يكن مجرد جهاز، بل كانت تجربة اجتماعية، روح جماعة تجمع الأصدقاء حول الشاشة الصغيرة، وكانت صرخة طفولة للجيل الذي نشأ في الثمانينات والتسعينات. هذا البعد العاطفي هو ما دفع تشو لأن يستمر، وأن يصمم وحداته اليدوية بأسلوب يحترم تلك الروح.
![]()
البعض قد يسأل: لماذا في تايوان بالذات؟ فالمشهد التايواني للألعاب الكلاسيكية ليس عبثًا؛ بل له جذور في انتشار نسخ Famicom الفاخرة أو المقلّدة في آسيا، وحضوره في أسواق مستعملة عديدة. هذا البيئة وفّرت لتشو منصة تقنية تُشجّعه على العمل اليدوي، وعلى إعادة ابتكار أجهزة تحولت إلى تراث قبل أن تُهمَل. وكونه في تايبيه يعني أن لديه وصولاً لمكونات بأسعار معقولة ومعارف تقنية مناسبة لإعادة التصنيع والتعديل، وهو ما سمح له بأن يقضي سنوات طويلة بدون ضغوط تجارية.
إلى جانب الجانب الفني، هناك جانب اجتماعي مهمّ: فعندما تسلّم أحد هواة الجمع في كوريا نسخة رقم “3/4” من تشو، أُقيم لقاء صغير “لعب وتجمع Retro” حضره خمسة أشخاص، جلسوا أمام الجهاز، أدخلوا شريطًا من أشرطة Nintendo الأصلية، واسترجعوا لعبة Mario Bros. في جلسة جمعت بين الأصدقاء والنقاش والضحك والحنين. تلك اللحظة كانت بالنسبة لتشو تكريمًا لعمله: ليس صناعا لمجرد العرض، بل بناء لمجتمع. فالأجهزة التي يصنعها ليست معزولة، بل تُشغّل من جديد باسم التجربة.
![]()
عندما ننظر إلى مشروع تشو من زاوية أوسع، نرى أنه جزء من حركة أكبر في عالم الألعاب: حركة “Retro Gaming” التي اعتمدت، منذ أوائل الألفية، على تجميع الأجهزة القديمة، ترميمها، وتعديلها لتعود للحياة. في لذلك تصويرٌ لجيل فقد كثيرًا من الزمان – لكنه لم يفقد العلاقة الشعورية مع تلك الأزرار والألوان. لذا، فإن أجهزة مثل وحدة Famicom المحسّنة هذه تُقدّم ليس مجرد جهاز تشغيل، بل رمزًا لتعافي الذاكرة الرقمية والوطنية.
كما يمكن اعتبار هذا المشروع درسًا في كيفية تحويل الشغف إلى عمل فني ملموس. في عصر تتجه فيه الصناعة نحو الحوسبة السحابية، الألعاب كبنادق واقعية، وخدمات اشتراك لا تنفك تُهلّل بتكنولوجيا الغد، يأتي شخص مثل تشو وين تشيانغ ليقول: “أنا لن أنتظر أن يُعاد طبع نسخ الجيل القديم، بل سأُعيد صنعها بنفسي”. وفعلاً، هو صنعها، لكنه صنع أكثر من ذلك: صنع احتفالًا بالماضي، تحيةً لمن نشأ على البلاستيك الأحمر والأزرار الملونة.
على مستوى التقنية، فإن ما قام به ليس إعادة تجميع فقط، بل مشروع هندسي بامتياز: فقد دمج شاشة CRT بحجم 14 بوصة داخل هيكل Famicom الأصلي تقريبًا، مع تعديل مزود الطاقة ليقبل تيارًا عالميًا، وتوصيل خرج HDMI ثانوي لجعل الجهاز يعمل أيضًا على التلفزيونات الحديثة (مع المحافظة على المخرج الأصلي للراديو الداخلي). كما استبدل المفاتيح الأصلية بمفاتيح عالية الجودة، وأعاد تصنيع العلبة البلاستيكية باستخدام نفس اللون الأصفر الأصلي المصبوغ، ثم أضاف طبقة شفافة لامعة تحمي الهيكل من الخدش، وكل هذا تم يدويًا. النتيجة أن الوحدة، بعد تسليمها، تعمل كما لو أنك تعيش تجربة عام 1985 – لكن في عام 2025.
![]()
ومن الناحية الاقتصادية، ورغم أن المشروع غير تجاري، فإن قيمة كل وحدة تُقدّر اليوم في أسواق الجمع والمزادات بـ آلاف الدولارات؛ ليس فقط لنقصها (أربع وحدات فقط)، بل لما تحمله من قصة وإتقان وحب. وقد صرّح أحد هواة الجمع في اليابان بأنه دفع ما يعادل 3000 دولار مقابل نسخة رقم “4/4” بعد قائمة انتظار طويلة. وهذه القيمة ليست مهمة فقط في السعر، بل في ما تمثّله من تواصل إنساني وفني.
ما يجعل المشروع أكثر تميزًا هو أن تشو لم يحتفظ بكل الوحدات لنفسه، بل وزّعها على مجتمع صغير من محبّي Retro Gaming، ووافق على أن تُعرض في معارض ألعاب كلاسيكية وزيارات جامعي الأجهزة، وهو ما ساهم في نشر فكرة أن الأجهزة القديمة ليست نفايات إلكترونية، بل تراث يُعاد تشغيله ويُعاد تفسيره، بل أن من يملكها هو حارس لجزء من تاريخ الألعاب.
وهنا يمكن القول إن مشروع تشو لا يعيد فقط تشغيل شريط Famicom، بل يُشغّل الذاكرة الجمعية لجيلٍ كامل. ففي اللحظة التي تضع فيها شريط Super Mario Bros. أو Legend of Zelda داخل جهازه، وتجلس أمام التلفاز الذي بدا كأنه مدمج منذ الثمانينيات، تعود بك الزمان لتلك الفترة التي كانت الألعاب تقنية بسيطة لكنها جمعتنا مع الأصدقاء والعائلة. وفي زمن أصبحت فيه التجربة تُختصر في تحميل سريع أو تحديث إلزامي، فإن تلك اللحظة تصبح طقسًا، تجربةً تحمل معنى.
وفي المقابل، يطرح هذا المشروع تساؤلاً مهمًّا: في زمن إعادة الإحياء (Remaster/Remake)، وهل يمكن أن يكون الإحياء يدويًا أفضل؟ تشو يرى أن الإجابة “نعم”؛ لأن اليد التي تصنع شيئًا تعي شفرته وتحسّ وزنه وتفاصيله، وهو ما يمنح القطعة رابطًا إنسانيًا، وهذا ما ينقص كثيرًا من المنتجات الحديثة. وعندما يسأل بعض الزوار عن إمكانية إنتاج نسخة خامسة أو إطلاق خط تجاري، يكون جوابه دائمًا: “لا، هذا ليس عملًا تجاريًا، بل هدية للماضي”.
وختامًا، فإن آلة الفاميكون الحلم ليست مجرد جهاز، بل شهادة على أن التقنية ليست ما يُهمّ وحده، بل ما تبقى في الذاكرة. تحفة تشو وين تشيانغ التايوانية تحقّق التوازن بين الحنين والتحديث، بين الطفولة والشغف، بين البساطة والإتقان. وهي تذكير بأنّ ألعاب الفيديو التي لعبناها قبل عقود ليست مجرد ترفيه، بل كانت انقلابًا ثقافيًا ولد في غرفٍ صغيرة، وبعدها حلم بأنا نبنيه بأيدينا.