في خريف عام 1957، وقبل أن يصبح السفر بين القارات أمرًا عاديًا كما هو اليوم، كانت كاليفورنيا تستقبل ضيفًا استثنائيًا لم تشهد مثله من قبل. وسط أجواء من الدهشة والترحيب، زار الملك محمد الخامس، ملك المملكة المغربية آنذاك، مدينة الأحلام ديزني لاند بدعوة خاصة من مبتكرها الشهير والت ديزني. لم تكن الزيارة مجرد مرور بروتوكولي أو حدثًا سياحيًا، بل لحظة رمزية حملت في طياتها أكثر مما أظهرته الصور. كان لقاءً بين عالمين، أحدهما يمثل العراقة والتاريخ الممتد عبر قرون من الحضارة المغربية، والآخر يجسد الحداثة الأميركية في أبهى صورها عبر خيال ديزني الذي تجاوز الزمان والمكان.
كانت ديزني لاند وقتها مشروعًا جديدًا نسبيًا، لم يمض على افتتاحها سوى عامين، لكنها جذبت انتباه العالم كأول مدينة ترفيهية من نوعها. أما الملك محمد الخامس، فكان في خضم فترة حاسمة بعد استقلال المغرب بعامين فقط، يعمل على بناء صورة جديدة للمملكة في الخارج، تجمع بين الأصالة والانفتاح. لذلك جاءت تلك الزيارة كحدث ثقافي وإنساني يعكس رؤية ملك مثقف، يؤمن بالحوار والتقارب بين الشعوب، ورجل أعمال مبدع يرى أن الخيال يمكن أن يكون جسرًا للتفاهم بين الثقافات. في لحظة واحدة، التقت الواقعية السياسية المغربية بالخيال الأميركي لتصنع مشهدًا استثنائيًا ما زال يثير الفضول بعد أكثر من ستة عقود.
![]()
كان يوم الزيارة مشمسًا ودافئًا، كما وصفه أحد موظفي ديزني القدامى، حين توقفت السيارات الملكية عند مدخل المدينة الترفيهية في أنهايم. تقدم والت ديزني بنفسه لاستقبال الملك، بابتسامته المعروفة التي كانت تسبق كلامه دائمًا، واصطحبه في جولة خاصة داخل الحديقة. سار الاثنان بين الأروقة، يحييهما الزوار والعاملون، بينما كانت الكاميرات تلتقط صورًا نادرة أصبح بعضها فيما بعد وثائق تاريخية. بدا المشهد وكأنه لوحة تجمع بين حضارتين مختلفتين، لكن تربطهما فكرة مشتركة هي الإبداع الإنساني. ديزني كان مفتونًا برقي الملك وهدوئه، فيما أُعجب محمد الخامس بالدقة التي بُنيت بها المدينة، وكيف استطاع خيال رجل أن يتحول إلى واقع محسوس. في إحدى تلك اللحظات، التفت ديزني إلى ضيفه قائلاً: “كل حلم يمكن أن يصبح حديقة يعيش فيها الناس إذا آمنوا به كفاية”. تلك الجملة أصبحت فيما بعد من أشهر اقتباساته غير الرسمية، ونُقلت عنه في بعض الصحف الأميركية عقب الزيارة.
![]()
اختُتمت الجولة في القسم الكلاسيكي من الحديقة، حيث استعرض والت ديزني نموذج قلعة “Sleeping Beauty” التي كانت آنذاك الرمز الأبرز لمدينة ديزني لاند. وتقول بعض الروايات الشفوية إن الملك أبدى إعجابه بكيفية دمج القصص الشعبية مع الفنون المعمارية في المكان، ملاحظًا أن ذلك يشبه الطريقة التي تحافظ بها المدن المغربية القديمة على أساطيرها داخل الجدران والزخارف. في نهاية الزيارة، قدّم والت ديزني هدية رمزية لضيفه: دمية صغيرة لشخصية “Pluto” الشهيرة. الهدية كانت بسيطة في شكلها لكنها مثّلت رسالة عميقة، إذ رأت الصحف الأميركية حينها أن ديزني قدّم رمز الصداقة والوفاء لشخص يجسد ثقافة أصيلة قادمة من أقصى شمال إفريقيا. تلك الهدية أصبحت حديث وسائل الإعلام في المغرب وأوروبا لاحقًا، خاصة بعد أن نُشرت صورة الملك وهو يحملها بابتسامة خفيفة تعبّر عن ودّ نادر في اللقاءات الرسمية.
ورغم أن الزيارة لم تكن موجهة للإعلام في الأساس، فإنها تحولت إلى حدث دبلوماسي غير معلن ساهم في تعزيز صورة المغرب في الغرب كدولة حديثة منفتحة على الحوار الثقافي. كانت سنوات الخمسينات مرحلة دقيقة في السياسة الدولية، والمغرب الخارج حديثًا من الاستعمار الفرنسي كان بحاجة إلى ترسيخ مكانته المستقلة. لذلك، اعتُبرت مبادرة الملك بزيارة أحد رموز الثقافة الشعبية الأميركية خطوة جريئة تعكس رؤية إنسانية عميقة، مفادها أن الجسور تبنى بالاحترام لا بالخطابات، وبالابتسامة أكثر من البروتوكول. حين نشرت صحيفة “Los Angeles Times” تقريرها في اليوم التالي، وصفت الزيارة بأنها “لقاء بين الخيال والقيادة”، وهو عنوان ما زال يُتداول حتى اليوم في أرشيف الصحافة الأميركية.
مع مرور السنوات، أصبحت تلك الصور النادرة التي جمعت الملك محمد الخامس مع والت ديزني إرثًا بصريًا يوثق لحظة نادرة من تاريخ العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب. فوسط الحرب الباردة وانقسام العالم بين معسكرين، كان هناك ملك من شمال إفريقيا ورجل من هوليوود يتحدثان عن الفن والخيال والسلام. لم يكن أحدهما يحتاج إلى مترجم في تلك اللحظة، لأن لغة الابتسامة كانت كافية. تلك الصور عادت للظهور مؤخرًا في مجموعات من المهتمين بالتاريخ على مواقع التواصل الاجتماعي، لتثير موجة من الإعجاب بين جيل لم يعش تلك الحقبة. البعض رأى فيها تجسيدًا لعصر كانت فيه الدبلوماسية أكثر إنسانية وأقل ضجيجًا، بينما رآها آخرون ذكرى دافئة تذكّرنا بأن وراء كل مشروع ضخم أو قرار سياسي، هناك دومًا لحظة بشرية بسيطة تمنحه المعنى.
![]()
ربما ما يجعل هذه الزيارة خالدة في الذاكرة الجماعية، ليس فقط كونها تجمع بين شخصية تاريخية بحجم محمد الخامس وأسطورة ترفيهية مثل والت ديزني، بل لأنها تعكس الفكرة الجوهرية التي لا تموت : أن الخيال قادر على تجاوز الحدود حين يلتقي بالاحترام المتبادل. في عالم اليوم، حيث يسيطر التسويق على كل لقاء والعدسات لا تفارق أي لحظة، تبقى تلك الزيارة مثالًا نادرًا على العفوية الأصيلة. لم يكن هناك استعراض ولا منصة، فقط إنسانان من عالمين مختلفين قررا أن يتشاركا لحظة دهشة أمام عالم مصنوع من الحكايات. وربما كان ذلك هو جوهرها الحقيقي : أن الدبلوماسية ليست دائمًا في القاعات الرسمية، بل أحيانًا في رحلة قصيرة إلى مدينة الأحلام.