(ح2-ج1) الذكاء الإصطناعي و الفلسفة.. عندما يتحدث نعوم تشومسكي عن الوعود الكاذبة للآلة المفكرة !

نعوم شومسكي و chat gpt

عن : “الشرق الاوسط”

راكمت البشرية منذ خطها بالقلم، و تصنيف مفاهيمها و مكتسباتها إلى علوم عدة، مجموعة من المعلومات المهمة التي أضحت مكاتب و مخازن ثرية للذكاء الإصطناعي (والبشرية من قبل). نعلم من “علم اللغويات” و “فلسفة المعرفة” أن الذكاء الإصطناعي (العقول) يختلف إختلافا عميقا عن كيفية تفكير البشر و إستخدامهم للغة، حيث تضع هذه الإختلافات “قيودا” كبيرة على ما يمكن أن تفعله هذه البرامج، و ما تمتلكه من عيوب لا يمكن إصلاحها بسهولة.

  في فترة ما من تاريخ البشرية، كتب “خورخي لويس بورخيس” (ذات مرة) : “أن العيش في وقت يمتزج فيه الخطر بالوعود الثقيلة قد لا ينتج عنه إلا شيئين : “المأساة” و “الكوميديا”، كل ما إقتربنا من فهم أنفسنا و العالم”. أما اليوم، فإن تقدمنا الثوري (المفترض) في الذكاء الإصطناعي هو في الواقع مزيج من القلق و التفاؤل. القلق، لأننا نخشى أن تؤدي التقنيات الأكثر شعبية و عصرية من الذكاء الاصطناعي (التعلم الآلي) إلى تدهور علمنا و الحط من أخلاقياتنا من خلال دمج المفاهيم المعيبة للغة و المعرفة في تقنيتنا. التفاؤل، لأن الذكاء هو الوسيلة التي نحل بها المشكلات في حياتنا.

  يعد كل من “ChatGPT” من “OpenAI”، و “بارد” (Bard) من “غوغل” و “ميكروسوفت سيدني” (Microsoft Sydney) من أعاجيب التعلم الآلي. بشكل تقريبي، ستستخلص هذه التقنيات كميات هائلة من البيانات، و تبحث عن ما فيها لتصبح بارعة بشكل متزايد في توليد مخرجات مثل اللغة و الفكر تبدو شبيهة بما ينتجه الإنسان. تم الترحيب بهذه البرامج بإعتبارها “أول بصيص في أفق الذكاء الاصطناعي العام” و تحقيقا لتلك اللحظة التي تنبأ بها منذ فترة طويلة، عندما تتفوق “العقول الميكانيكية” على أدمغة البشر ليس فقط من الناحية الكمية و إنما أيضا من حيث “سرعة المعالجة” و “حجم ذاكرة التخزين” و أيضا من الناحية النوعية من حيث “البصيرة الفكرية” و “الإبداع الفني” و كل ميزة بشرية مميزة أخرى.

  قد يأتي ذلك اليوم، لكن فجره لم يظهر بعد، على عكس ما يمكن قراءته في العناوين الرئيسية المبالغ فيها من المدعومة بالإستثمارات غير الحكيمة.. مهما كانت هذه البرامج مفيدة في بعض المجالات الضيقة (يمكن أن تكون مفيدة في برمجة الكمبيوتر أو في إقتراح القوافي للأشعار البسيطة) فإننا نعلم من علم اللغويات و فلسفة المعرفة أنها تختلف إختلافا عميقا عن كيفية تفكير البشر و إستخدامهم للغة.

  إن هذا الموقف، لأمر هزلي و مأساوي في آن واحد. فكما لاحظ “بورخيس” فإن الكثير من المال و الإهتمام يجب أن يتركز على شيء ضئيل للغاية عند مقارنته بالعقل البشري، الذي بفضل اللغة و على حد تعبير “فيلهلم فون هومبولت” يمكن أن يجعل “إستخدام هذه الوسائل المحدودة لانهائي” من خلق الأفكار و النظريات ذات الوصول العالمي. لا يعتبر العقل البشري مثل “ChatGPT” و أمثاله محركا إحصائيا لمطابقة الأنماط، يلتهم مئات التيرابايت من البيانات و يستنبط إستجابة المحادثة الأكثر  أو الإجابة الأكثر إحتمالا لسؤال علمي. على العكس من ذلك، فإن العقل البشري هو “نظام فعال بشكل مدهش” يعمل بكميات صغيرة من المعلومات، و لا يسعى إلا إلى إنشاء تفسيرات محددة.

  على سبيل المثال، يطور الطفل الصغير الذي يكتسب لغة دون وعي و بشكل تلقائي و سريع من بيانات ضئيلة (القواعد) نظاما متطورا بشكل مذهل من المبادئ المنطقية. يمكن فهم هذه القواعد، على أنها تعبير عن “نظام التشغيل” الفطري المثبت وراثيا والذي يمنح البشر القدرة على “توليد جمل معقدة و مسارات طويلة فكرية”. في الواقع، مثل هذه البرامج عالقة في مرحلة ما قبل التطور المعرفي. إن “أعمق” عيب لديهم هو غياب القدرة الأكثر أهمية هي “الوصف” و “التنبؤ”، و هذه علامات الذكاء الحقيقي.

  كمثال، لنفترض أنك تحمل تفاحة في يدك و تركتها تسقط الآن و أنت تراقب النتيجة و تقول: “تسقط التفاحة”، فهذا المشهد يعتبر وصفا، في حين أن “التنبؤ” سيكون “ستسقط التفاحة إذا فتحت يدي”. كلا الوصفين ذو قيمة، و كلاهما يمكن أن يكون صحيحا. لكن، يعتبر التفسير شيء أكثر من ذلك، فهو لا يشمل الأوصاف و التنبؤات فحسب، بل أيضا التخمينات المضادة للواقع مثل “أي جسم من هذا القبيل سيسقط”، بالإضافة إلى العبارة الإضافية “بسبب قوة الجاذبية” أو “بسبب إنحناء الزمكان” أو أيا كان وكلها تحيل إلى التفسير السببي. أما لجملة “لم تكن التفاحة لتسقط لولا قوة الجاذبية”، فهذا هو التفكير.

  إذا، فجوهر “التعلم الآلي” هو الوصف و التنبؤ… لا شك أن أي تفسير على غرار ما يفعله الإنسان ليس صحيحا بالضرورة ؛ لكنه يحتمل الصحة بالضرورة، فنحن لسنا معصومين من الخطأ، لكن هذا جزء مما يعنيه التفكير: قلكي تكون على صواب، من الممكن أن تكون مخطئا. لا يتكون الذكاء من “التخمينات الإبداعية” فحسب، بل يتكون أيضا من “النقد الإبداعي” حيث يعتمد الفكر البشري على التفسيرات المحتملة و تصحيح الأخطاء، و هي عملية تحد تدريجيا من الإحتمالات التي يمكن النظر فيها بعقلانية (كما قال “شيرلوك هولمز” ل”الدكتور واتسون” : “عندما تقضي على المستحيل، فإن كل ما يتبقى و مهما كان غير محتمل، يجب أن يكون الحقيقة”).

  على العكس من ذلك، يبدو أن بعض المتحمسين للتعلم الآلي فخورون بأن إبداعاتهم يمكن أن تولد تنبؤات “علمية” صحيحة (على سبيل المثال ما يتعلق بحركة الأجسام المادية) دون الإستفادة من التفسيرات المعروفة (على سبيل المثال “قوانين نيوتن للحركة والجاذبية” العالمية). لكن، هذا النوع من التنبؤ، حتى عندما يكون ناجحا فلا يعتبر إلا علما زائفا، و في حين أن العلماء يبحثون بالتأكيد عن نظريات لها درجة عالية من التأييد التجريبي، كما لاحظ الفيلسوف “كارل بوبر” قائلا : “نحن لا نبحث عن نظريات محتملة للغاية و إنما عن تفسيرات، و هذا يعني نظريات قوية و غير محتملة للغاية”.

  إن النظرية القائلة بأن “التفاح يسقط على الأرض لأنها مكانه الطبيعي” (وجهة نظر أرسطو) قد تكون ممكنة، لكنها تدعو فقط إلى مزيد من الأسئلة من قبيل “لماذا على الأرض أن تكون مكانها الطبيعي؟”، أما النظرية القائلة بأن “التفاح يسقط على الأرض لأن الكتلة تنحني الزمكان” (وجهة نظر أينشتاين) غير محتملة إلى حد كبير، لكنها في الواقع تخبرك عن سبب سقوطها. هنا، يظهر الذكاء الحقيقي في القدرة على التفكير و التعبير عن أشياء غير محتملة و متوقعة.

  إن الذكاء الحقيقي قادر أيضا على “التفكير الأخلاقي”، و هذا يعني تقييد الإبداع اللامحدود لعقولنا بمجموعة من المبادئ الأخلاقية التي تحدد ما يجب وما لا ينبغي أن يكون (و بالطبع إخضاع هذه المبادئ نفسها للنقد الإبداعي). لكي تكون مفيدة، يجب تمكين “ChatGPT” لتوليد مخرجات ذات مظهر جديد ؛ لكي تكون مقبولة لمعظم مستخدميها، و يجب أن تبتعد عن المحتوى المرفوض أخلاقيا، على أن مبرمجي “ChatGPT” و غيرهم من أعجوبة “التعلم الآلي” قد كافحوا و سيواصلون النضال لتحقيق هذا النوع من التوازن.

باختصار، فإن “ChatGPT” و إخوانه “غير قادرين” على تحقيق التوازن بين الإبداع و القيود. إنهم إما يفرطون في ظهور على الساحة (إنتاج كل من الحقائق والأكاذيب، تأييد القرارات الأخلاقية و غير الأخلاقية على حد سواء) أو يتراجعون عن ذلك (يظهرون عدم الإلتزام بكل القرارات و عدم الإكتراث بالعواقب). بالنظر إلى “اللاأخلاقية” و “العلوم الزائفة” و “عدم الكفاءة اللغوية” لهذه الأنظمة، لا يسعنا إلا نتعجب من شعبيتها وسط العموم.

(يتبع)

شاب مغربي، محب للتقنية بصفة عامة، وخاصة العاب الحاسوب و الهاتف النقال، كما اعمل كمترجم و صحفي في الشأنين الإقتصادي و العالمي.